نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان

          3292- (حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، عَبْدُ القُدُّوسِ بْنُ الحَجَّاجِ) مرَّ في باب تزويج المحرم [خ¦1837]، قال: (حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عَمرو، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاريِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ، وَحَدَّثَنِي) بالإفراد (سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابن شرحبيل بن أيوب الدِّمشقي، قال: (حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ) أي: ابن مسلمٍ الدمشقيُّ، قال: (حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ) قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ) قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد أيضاً (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ) أنَّه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ) الرُّؤيا: على وزن فُعْلى بلا تنوين، وجمعها: رُؤًى مثل رُعًى، يقال: رأى في منامه رؤيا، وفي اليقظة رؤية. وقد قيل: إنَّ الرؤيا أيضاً تقال في اليقظة، وعليه الجمهور في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:60] إنَّ الرؤيا هاهنا في اليقظة.
          وقال الزمخشريُّ: الرؤيا بمعنى الرؤية إلَّا أنَّها مختصَّةٌ بما كان منها في المنام دون اليقظة، فلا جَرَمَ فرَّق بينهما. وقال الواحديُّ: الرؤيا مصدرٌ كالبشرى، إلَّا أنه لمَّا صار اسماً لهذا التخيُّل في المنام جرى مجرى الأسماء. وقيل: يجوز ترك همزها تخفيفاً، وكذا قلبها ياء، وإدغامها في الياء، وقد قرئ بهما.
          وقوله: الصَّالحة إمَّا صفة موضِّحة للرؤيا؛ لأنَّ غير الصَّالحة تسمَّى بالحُلُم، أو مخصِّصَة، والصَّلاح إمَّا باعتبار صورتها، وإمَّا باعتبار تعبيرها، ويقال لها أيضاً: الرُّؤيا الصَّادقة والرؤيا الحسنة.
          وقال الطَّيبيُّ: / معنى الصَّالحة: الحسنة، ويحتمل أن تجري على ظاهرها، وأن تجريَ على الصَّادقة، والمراد بها: صحَّتها.
          وتفسير رسول الله صلعم المبشِّرات بها على الأوَّل ظاهرٌ؛ لأنَّ البشارة كلُّ خَبَرِ صِدْقٍ تتغيَّر به بَشَرَةُ الوجه، واستعمالها في الخير أكثر، وعلى الثاني مؤوَّل إمَّا على التَّغليب، أو محمولٌ على أصل اللُّغة، وإضافتها إلى الله إضافة اختصاص وإكرامٍ؛ لسلامتها من التَّخليط، وطهارتها عن حضور الشَّيطان، والله تعالى أعلم.
          (وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ) أي: الرُّؤيا الغير الصالحة أو الكاذبة أو السيئة. وإنَّما نُسِبَ إلى الشَّيطان؛ لأنَّ الرؤيا الكاذبة يُرِيْها الشَّيطانُ الإنسانَ ليُحْزِنَه، ويسيءَ ظنَّه بربه، ويقل حظُّه من شُكره، ولذلك أمره أن يبصقَ عن يساره، ويتعوَّذ من شرِّه، كأنَّه يقصد به طردَ الشَّيطان.
          وأمَّا الرُّؤيا الصَّالحة: فهي بشارةٌ من الله يبشِّر بها عبده؛ ليحسن بها ظنَّه بربه، ويكثر شكره.
          وقال ابنُ الجوزي: الرُّؤيا والحلم بمعنى واحد؛ لأنَّ الحُلُمَ ما يراه الإنسان في منامه غير أنَّ صاحب الشَّرع خصَّ الخير باسم الرؤيا، والشَّر بالحلم، وإن كان كلٌّ منهما بقضاء الله تعالى، ولا فعل للشَّيطان في ذلك.
          وقيل: معناه: الرُّؤيا الحقُّ من الله؛ لأنَّه إذا نام العبد وصعدت روحه، وَكَّلَ له ملكاً يُمَثِّلُ له الأشياءَ على طريقِ الحِكْمَة؛ فهو من أنباء الغيب، وربما يلبس عليه الشَّيطان، ويمثل له ما كان تحدثه نفسه وتتمنَّاه في اليقظة، فحينئذٍ يكون ما رآه حُلُماً.
          (فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ) بفتح اللام. قال ابن التِّين: وحَلُم، بضم اللام، عنه بمعنى عفى عنه، ومصدره حِلْم، بكسر الفاء وسكون العين، وحَلِم، بالكسر، من حَلِمَ الأديمُ، يقال: حلم الأديم إذا شبَّ قبل أن يُدْبغَ.
          (حُلُماً) بضم الحاء واللام ويجوز إسكانها، ويجمع على أحلام في القلَّة، وحلوم في الكثرة، وإنما جمع وإن كان مصدراً؛ لاختلافِ أنواعه، وهو في الأصل: عبارة عمَّا يراه الرَّائي في منامه حسناً كان أو مكروهاً.
          (يَخَافُهُ) في محلِّ النَّصب على أنَّها صفة لقوله: حلماً (فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ) دَحْراً للشَّيطان بذلك كرمي الجمار، كما يتفلُ عند الشَّيء القذر يراه، ولا شيءَ أقذر من الشَّياطين، وذكر اليسار؛ لأنَّ العرب على أنَّ إتيان الشرِّ كله من قبل الشَّمال، ولذلك سمَّته الشؤم، وكانوا يتشاءمون بمن جاء من قبلها من الطَّير، وليس فيها أيضاً كثير عمل، بل أكثر العمل باليمين كالبطشِ والأكلِ والشرب، وأخذ الشَّيء الشَّريف.
          (وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا) أي: من شرِّ الحُلُم (فَإِنَّهَا) أي: الحُلُم (لاَ تَضُرُّهُ) وإنما أنث / الضَّمير باعتبار أنَّ الحُلُمَ هو الرُّؤيا السَّيِّئة الكاذبة المكروهة، والرُّؤيا المكروهة هي التي تكون من حديث النَّفس وشهواتها، وكذلك رؤيا التَّهويل والتَّخويف يُدْخِلُه الشَّيطانُ على الإنسان؛ ليشوِّش عليه في اليقظة، وهذا النَّوع هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنَّه من تخييلاته، فإذا فعل المأمور به صادقاً أذهب الله عنه ما أصابه من ذلك.
          وقد أخرج البخاريُّ هذا الحديث من وجهين. وفائدة الطَّريق الثانية، وإن كانت الأُولى أعلى منها، التَّصريح بتحديثِ عبد الله بن أبي قتادة ليحيى بن أبي كثير.
          وقد أخرجه البخاريُّ في ((التعبير)) أيضاً [خ¦6986]، وأخرجهُ النَّسائيُّ في ((اليوم والليلة)).