نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم

          ░12▒ (بابُ ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ) الكلام فيه على أنواع: الأوَّل: في وجود الجن. قال الشيخ أبو العباس ابن تيمية / ☼ : لم يخالف أحدٌ من طوائف المسلمين في وجود الجنِّ، وجمهور طوائف الكفَّار على إثبات الجنِّ، وإن وُجِدَ فيهم من يُنْكِرُ ذلك، وذلك لأنَّ وجود الجنِّ تواترت به أخبار الأنبياء ‰ تواتراً معلوماً بالاضطرار.
          وقال إمام الحرمين في كتابه «الشامل»: اعلموا رَحِمَكُم الله أنَّ كثيراً من الفلاسفة، وجماهير القدرية، وكافة الزنادقة أنكروا وجود الشَّياطين والجن رأساً.
          قال: ولا يتعجَّب ممن أنكر ذلك من غير المتشرِّعين ممَّن لا يتدين بدين، ولا يتشبَّث بشريعة، وإنَّما العجب من المتشرعين من القدرية مع نصوص القرآن، وتواتر الأخبار، واستفاضة الآثار. قال: وليس في قضيَّة العقل ما يقدح في إثباتهم. قال: وأكثر ما استروح إليه مَنْ نَفَاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم. قال: وإنَّما يَسْتَبْعِدُ ذلك من لم يُحِطْ عِلْماً بعجائب المقدورات.
          وقال أبو القاسم الأنصاري في «شرح الإرشاد»: وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودلَّ إنكارهم على قلَّة مبالاتهم، وركاكة ديانتهم، فليس في إثباتهم استحالة عقلية، وقد دلَّت نصوصُ الكتاب والسنَّة على إثباتهم.
          وقال القاضي أبو بكر الباقلانيُّ: وكثير من القدرية يُثْبتون وجودَ الجنِّ قديماً، وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يقرُّ بوجودهم ويزعم أنَّهم لا يُرَون لرقَّة أجسامهم، ونفوذ الشُّعاع فيها، ومنهم من قال: إنَّهم لا يُرَون؛ لأنَّه لا ألوان لهم.
          وقال عبد الجبار المعتزلي: الدَّليل على إثباتهم السَّمع دون العقل، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة؛ لأنَّ الشَّيء لا يدلُّ على غيره من غير أن يكون بينهما تعلُّق، ولو كان إثباتهم باضطرار؛ لما وقع الاختلاف فيه، إلَّا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النَّبي صلعم كان يتديَّن بإثباتهم، وذلك أشهر من أن نتشاغل بإيراده.
          النوع الثاني: في بيان ابتداء خلق الجن.
          قال أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشيُّ في «المبتدأ»: حدَّثنا عثمان: حدَّثنا الأعمش، عن بُكير بن الأَخنس، عن عبد الرحمن بن سليط القرشيِّ، عن ابن عمرو بن العاص ☻ قال: خلق الله الجنَّ قبل آدم بألفي سنة، ويقال: عمروا الأرض ألفي سنة.
          وعن ابن عباس ☻ : / ((كان الجنُّ سكَّان الأرض، والملائكة سكَّان السَّماء، وهم عمَّارها)).
          وقال إسحاق بن بشر: حَدَّثني جويبر وعثمان بإسنادهما: أنَّ الله تعالى خلق الجنَّ وأمرهم بعمارة الأرض، فكانوا يعبدون الله تعالى حتَّى طال عليهم الأمد، فعصوا الله، وسفكوا الدماء، وكان فيهم ملك يقال له: يوسف، فقتلوه، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة كانوا في السَّماء الدُّنيا كان فيهم إبليس، وهو على أربعة آلاف، فهبطوا، فنفوا بَنِي الجِنِّ، وأجْلَوهم عنها، وألحقوهم بجزائر البحر، وسكن إبليس وجنده الذين كانوا معه الأرض، فهان عليهم العمل، وأحبُّوا المكث فيها.
          النَّوع الثالث: في بيان خلقهم من ماذا؟ قال الله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]. وروى مسلم من حديث عائشة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم : ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانُّ من مارجٍ من نار، وخُلِقَ آدمُ ممَّا وُصِفَ لكم)).
          فثبت أنَّ أصلَ الجن النارُ كما أنَّ أصلَ الإنس الطينُ. وقد حكى الله في القرآن عنه قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف:12]، فهذا أيضاً يدلُّ على أنَّ أصل الجنِّ النار. لا يقال: يجوز أن يكذب في ذلك، أو قال ذلك بظنه، ولا يكون له به علم؛ لأنَّه يقال: لو لم يكن الأمر على ما قال لما ترك الله تكذيبه؛ لأنَّ عدم تكذيب الكاذب، ممَّن لا يجوز عليه الخوف والجهل، قبيح.
          فإن قيل: في النَّار من اليبس ما لا يصحُّ به وجود الحياة، إذ وجود الحياة يتوقَّف على رطوبة.
          فالجواب: أنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يجعل رطوبة في تلك النَّار بمقدار ما يصحُّ وجود الحياة فيها، مع أنَّ أبا هاشم جوَّز وجود الحياة مع عدم التنفس، وقال: إنَّ أهل النَّار لا يتنفَّسون.
          النوع الرابع: في أنهم أجسام، وأنَّهم على صورٍ مختلفة.
          قال القاضي أبو يعلى محمد بن حسين ابن الفراء الحنبلي: الجنُّ أجسامٌ مؤلَّفة وأشخاصٌ ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافاً للمعتزلة في دعواهم أنَّهم أجسامٌ رقيقة، وأنَّ امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردودٌ، فإنَّ الرقَّة ليست بمانعةٍ عن الرُّؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعضُ الأجسام / الكثيفة، إذ لم يخلق الله فينا إدراكها.
          وروى البيهقي في «مناقب الشافعي» بإسناده عن الرَّبيع: سمعتُ الشافعي يقول: من زعم أنَّه يرى الجنَّ أبطلنا شهادته، إلَّا أن يكون نبياً. انتهى.
          وحكى أبو القاسم الأنصاري، عن القاضي أبي بكر: نحن نقول: إنما رآهم من رآهم؛ لأنَّ الله خلق لهم الرؤية، وأن من لم يخلق له الرؤية لا يراهم، وأنَّهم أجسادٌ مؤلَّفة وجثث.
          وقال كثير من المعتزلة: إنَّهم أجسادٌ رقيقةٌ بسيطة. وقال القاضي عبد الجبار: أجسام الجنِّ رقيقة، ولضعف أبصارنا لا نراهم، لا لعلَّة أخرى، ولو قوَّى الله أبصارنا، أو كثَّف أجسامهم رأيناهم.
          وقيل: إن نفي رؤيتهم محمولٌ على نفي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها. وأما من ادَّعى أنَّه يرى شيئاً منهم بعد أن يتصوَّر على صورة شيءٍ من الحيوان، فلا قدحَ فيه، وقد تواترت الأخبار برؤيتهم في الصُّور المختلفة.
          قال السهيليُّ: الجنُّ ثلاثة أصناف: صنفٌ على صور الحيات، وصنفٌ على صور الكلاب السود، وصنف ريح طيَّارة، وقيل: هفَّافة ذوو أجنحة، وهم يتصوَّرون في صور الحيَّات والعقارب، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صورة الطير، وفي صورة بني آدم. واختلف أهل الكلام في ذلك فقيل: هو تخييلٌ فقط، ولا ينتقل أحدٌ عن صورته الأصلية، وقيل: بل ينتقلون، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضربٍ من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر.
          قال القاضي أبو يعلى: ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم، والانتقال في الصور، وإنما يجوز أن يعلِّمهم الله كلمات، وضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله، وتكلَّم به نقله من صورةٍ إلى صورة، وأمَّا أن يصوِّر نفسه؛ فذاك محال.
          وفيه أثرٌ عن عمر ☺، أخرجهُ ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيحٍ: أنَّ الغِيلان ذُكِرُوا عند عمر ☺ فقال: إنَّ أحداً لا يستطيع أن يتحوَّل عن صورته التي خلقه الله عليها، وبقي لهم سحر، فإذا رأيتم ذلك فأَذِّنوا.
          وقد قال بعضهم: إنَّ الجنَّ أنواع: منهم الغول، وهو العفريت، وهو يتلوَّن في ضروب من الصور يترائى في الليل، وفي أوقات الخلوات / لمن كان مسافراً وحده، فيتوهم أنَّه إنسان، ويُضِلُّ المسافر عن الطريق. ومنهم السعلاة، وهي مغايرةٌ للغول، وأكثر ما يوجد في الغياض إذا ظفرتْ بإنسان ترقصه وتلعب به، كما تعلب السنُّور بالفأر. ومنهم الغدار، وهو يوجد بأكناف اليمن، وربما يوجد في أرض مصر إذا عاينه الإنسان خرَّ مغشيًّا عليه. ومنهم الولهان، ويوجد في جزائر البحر، وهو في صورة إنسان راكبٍ على نعامة يأكل الناس الذين يقذفهم البحر. ومنهم الشقّ كنصف آدميٍّ بالطول، زعموا أنَّ النسناس مركبه، يظهر للنَّاس في أسفارهم. ومنهم من يأنس بالآدميين ولا يؤذيهم. ومنهم من يختطف النِّساء الأبكار. ومنهم من هو في صورة الوزغ. ومنهم من هو على صورة الكلاب.
          النوع الخامس: في أصلهم، فقد اختلف فيه، فقيل: إنَّهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافراً يسمَّى شيطاناً، وقيل: إنَّ الشياطين خاصَّة أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عبَّاس ☻ الآتي في ((تفسير سورة الجن)) [خ¦4921] يقوِّي أنَّهم نوعٌ واحدٌ من أصلٍ واحدٍ.
          واختلف في صفتهم: فمن كان كافراً يسمَّى شيطاناً، وإلَّا قيل له: جني. وقال الحسن البصريُّ: الشَّياطين أولاد إبليس لا يموتون إلَّا معه، والجنُّ يموتون قبله. وقال إسحاق: عن عكرمة، عن ابن عباس ☻ قال: لما خلق الله شوما أبا الجن، وهو الذي خُلِقَ من مَارِجٍ من نار، قال تبارك وتعالى: تمنى، قال: أتمنَّى أن نَرى ولا نُرى، وأن نغيَّب في الثرى، وأن يصير كهلنا شاباً، فأعطي ذلك فهم يَرون ولا يُرون، وإذا ماتوا غيِّبوا في الثرى، ولا يموت كهلهم حتَّى يعود شاباً مثل الصبيِّ، ثم يُردُّ إلى أرذل العمر.
          النوع السادس: في وجه تسميتهم بالجن.
          قال ابن دريد: الجنُّ خلاف الإنس، يقال: جنَّه الليل وأجنَّه، وجنَّ عليه وغطَّاه في معنى واحد: إذا ستره، وكلُّ شيء استتر عنك فقد جنَّ عنك، وبه سمِّيت الجن. وكان أهل الجاهليَّة يسمُّون الملائكة: جناً؛ لاستتارهم عن الأعين، / والجنُّ والجنة واحد، والجنَّة: ما واراك من سلاح. قال: والحن، بالحاء المهملة، ضربٌ من الجن.
          قال الراجز:
يَلْعَبْنَ أَحْوَالِي مِنْ حِنٍّ وَمِنْ جِنٍّ
          وقال أبو عُمير الزاهد: الحِنُّ كلاب الجنِّ وسفلتهم. ووقع في كلام السهيليِّ في «النتائج»: أنَّ الجن شمل الملائكة وغيرهم مما اجتنَّ عن الأبصار.
          النوع السَّابع: في أنَّهم هل يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتوالدون؟ وللنَّاس فيه أقوال:
          فقيل: إنَّ جميع الجنِّ لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قولٌ ساقط. وقيل: إنَّ صِنْفاً منهم يأكلون ويشربون، وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون. وقيل: إنَّ جميعهم يأكلون ويشربون.
          واختلفوا في صفة أكلهم وشربهم: فقيل: أكلُهم وشربُهم تشمُّمٌ واسترواح، لا مضغ ولا بَلْعَ، وهو قولٌ مردودٌ بما رواه أبو داود من حديث أميَّة بن مَخْشِي قال: كان رسول الله صلعم جالساً ورجلٌ يأكل ولم يسمِّ، ثم سمَّى في آخره، فقال النَّبي صلعم : ((ما زال الشَّيطان يأكلُ معه فلما سمَّى استقى ما في بطنه)). وروى مسلمٌ من حديث ابن عمر ☻ ، قال: قال رسول الله صلعم : ((لا يأكلنَّ أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فإنَّ الشَّيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله)).
          وقيل: أكلهم وشربهم مضغٌ وبلع، ويدلُّ عليه الحديثان السَّابقان.
          وروى ابن عبد البرِّ عن وهب بن منبه: أنَّ الجنَّ أصناف؛ فخالصهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتوالدون، وجنسٌ منهم يقع منهم ذلك، ومنهم السَّعَالى والغُول والقُطْرب، وهذا إن ثبت كان جامعاً للقولين الأولين.
          ويؤيِّده: ما رواه ابن حبَّان والحاكم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلعم : ((الجنُّ على ثلاثة أصناف: صنفٌ لهم أجنحةٌ يطيرون في الهواء، وصنف حيَّات وعقارب، وصنف يَحِلُّونَ ويظعنون)). وروى ابن أبي الدُّنيا من حديث أبي الدَّرداء ☺ مرفوعاً نحوه، لكن قال في الثالث: ((وصنف عليهم الحساب والعقاب)).
          وروى ابنُ أبي الدنيا من طريق يزيد بن يزيد / بن جابر أحد ثقات الشاميِّين من صغار التابعين قال: ما من أهل بيت إلَّا وفي سقف بيتهم من الجنِّ إذا وضع الغداء نزلوا فتغدُّوا معهم، والعشاء كذلك.
          واستدلَّ من قال: بأنَّهم يتناكحون بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:56] {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50].
          والدَّلالةُ من ذلك ظاهرة، واعْتَلَّ من أنكر ذلك بأنَّ الله تعالى أخبر أنَّ الجان خُلِقَ من مارج من نار، وفي النَّار من اليبوسة والخفة ما يمتنع معه التَّوالد.
          وأجيب: بأنَّ أصلهم من النار كما أنَّ أصل الآدمي من التراب، فكما أنَّ الآدمي ليس طيناً حقيقة كذلك الجني ليس ناراً حقيقة. وقد وقع في «الصحيح» في قصَّة تعرض الشَّيطان للنَّبي صلعم أنَّه قال: ((فأخذتُه فخَنَقْتُه حتَّى وجدتُ ريقه على يدي)).
          وبهذا يندفع إيراد من استشكل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] فقال: كيف يحرق النار النار.
          النَّوع الثامن: في أنهم مكلَّفون أم لا؟ فقال ابن عبد البر: الجنُّ عند الجماعة مكلفون مخاطبون لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن:33]. وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في ذلك إلَّا ما حُكَي عن بعض الحشوية أنَّهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا مكلَّفين.
          قال: والدَّليل للجماعة ما في القرآن من ذمِّ الشَّياطين، والتحرُّز من شرِّهم، وما أعدَّ لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلَّا لمن خالف الأمر، وارتكب النَّهي مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدَّالة على ذلك كثيرة جداً.
          وإذا تقرر كونهم مكلَّفين فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم أم لا؟ فروى الطبريُّ من طريق الضَّحاك بن مزاحم إثبات ذلك، وجمهور العلماء خلفاً وسلفاً على أنَّه لم يكن من الجنِّ نبيٌّ قط، ونقل هذا عن ابن عبَّاس ☻ .
          وعن ابن جُريج ومجاهد والكلبي وأبي عبيد والواحدي، وذكر إسحاق بن بشر في «المبتدأ» عن ابن عبَّاس ☻ : ((أنَّ الجنَّ قتلوا نبياً لهم قبل آدم ◙ اسمه: يوسف، وأنَّ الله بعثه إليهم رسولاً، وأمرهم بطاعته))، وقد مرَّ آنفاً.
          قال: ومن قال بقول الضَّحاك احتجَّ بأنَّ الله تعالى أخبر أن من الجنِّ والإنس رسلاً أرسلوا إليهم، حيث قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] الآية.
          وأجاب الجمهور: بأنَّ معنى الآية: أنَّ رسل الإنس رسل من قِبَل الله إليهم، ورسل الجنِّ بثَّهم الله في الأرض فسمعوا كلامَ الرسل من الإنس وبلَّغوه قومهم، ولهذا قال قائلهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِمُوسَى} [الأحقاف:30] الآية / .
          واحتجَّ ابن حزم: بأنَّه صلعم قال: ((وكان النَّبي يُبْعَثُ إلى قومه)). قال: وليس الجنُّ من قوم الإنس إلَّا نبينا صلعم ؛ لعموم بعثته إلى الجنِّ والإنس بالاتفاق. انتهى.
          وقال ابن عبد البر: لا يختلفون في أنَّه صلعم بُعِثَ إلى الإنس والجنِّ، وهذا ممَّا فُضِّلَ به على الأنبياء ‰.
          وقال إمام الحرمين في «الإرشاد» في أثناء الكلام مع العيسوية: وقد علمنا ضرورة أنَّه صلعم ادعى كونه مبعوثاً إلى الثَّقلين.
          وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: اتَّفَقَ على ذلك علماء السَّلف من الصَّحابة والتَّابعين، وأئمة السَّلف. وإذا تقرَّر كونهم مكلفين فهم مكلَّفون بالتَّوحيد وأركان الإسلام، وأمَّا ما عداه من الفروع فاختلف فيه؛ لما ثبت من النَّهي عن الرُّوث والعظم، وأنَّهما زاد الجن.
          وسيأتي في «السيرة النبوية» حديث أبي هريرة ☺، وفي آخره: فقلت: ما بال الرَّوث والعظم؟ قال: ((هما طعام الجن...)) الحديث [خ¦3860]، فدلَّ على جواز تناولهم للرَّوث، وذلك حرامٌ على الإنس.
          وكذلك روى أحمد والحاكم من طريق عكرمة، عن ابن عباس ☻ قال: خرج رجلٌ من خيبر فتبعه رجلان وآخر يتلوهما يقول: ارجعا، حتَّى ردَّهما، ولَحِقَهُ، فقال له: إنَّ هذين شيطانان، فإذا أتيت رسول الله صلعم فاقرأ ◙ وأخبره أنَّا في جمع صدقاتنا، ولو كانت تصلح له لبعثنا بها إليه، فلمَّا قدم الرجل المدينة أخبر النَّبي صلعم بذلك، فنهى عن الخلوة؛ أي: عن السَّفر منفرداً، والله تعالى أعلم.
          وأمَّا قول المصنف: وثوابهم وعقابهم؛ يعني: أنَّه على القول بأنَّهم مكلَّفون؛ هل لهم ثوابٌ وعليهم عقابٌ أم لا؟ فلم يختلفوا أنَّهم يعاقبون على المعاصي، وأمَّا أنَّهم هل يثابون؟ فاختلف فيه على قولين:
          القول الأول: أنَّه لا ثواب لهم إلا النَّجاة من النَّار، يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم، وهو قول أبي حنيفة ☼ ، حكاه ابنُ حزم وغيره، عنه.
          فروى / الطبريُّ وابن أبي حاتم من طريق أبي الزناد موقوفاً قال: إذا دخل أهل الجنَّة الجنة، وأهل النَّار النار، قال الله تعالى لمؤمني الجنِّ وسائر الأمم من غير الإنس: كونوا تراباً، فحينئذٍ يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40]. وروى ابن أبي الدَّنيا عن ليث بن أبي سليم قال: ثواب الجنِّ أن يجاروا من النار، ثمَّ يقال لهم: كونوا تراباً.
          القول الثاني: أنَّهم يثابون على الطاعة، ويعاقبون على المعصية، وهو قول الأئمة الثلاثة وأبي يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي وغيرهم، وسُئل ابن عباس ☻ فقال: ((نعم لهم ثواب، وعليهم عقاب)).
          ثمَّ اختلفوا هل يدخلون الجَنَّة مَدخَل الإِنس؛ على أربعة أقوال: أحدها: أنَّهم يدخلونها، حكاه ابن حزم في «الملل» عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف والجمهور، قال: وبه نقول.
          ثمَّ اختلفوا هل يأكلون فيها ويشربون، فروى سفيان الثوريُّ في «تفسيره» عن جويبر، عن الضَّحَّاك: أنَّهم يأكلون ويشربون. وعن مجاهد: أنَّهم يدخلونها، ولكن لا يأكلون، ولا يشربون، ويُلْهَمُون من التَّسبيح والتَّقديس ما يجد أهل الجنَّة من لذة الطَّعام والشراب.
          وذهب الحارث المحاسبي: إلى أنَّهم يدخلون الجنَّة يكونون نراهم يوم القيامة، ولا يروننا عكس ما كانوا عليه في الدُّنيا.
          الثاني: أنَّهم لا يدخلون الجنَّة، بل يكونون في ربضها يراهم الإنس من حيث لا يرونهم، وهو منقول عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، حكاه ابن تيمية، وهو خلاف ما حكاه ابن حزم عن أبي يوسف.
          الثَّالث: أنَّهم على الأعراف.
          الرابع: التوقف عن الجواب في هذا.
          وروى الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الرحمن الكنجرودي في «أماليه» بإسناده إلى الحسن، عن أنس ☺، عن النَّبي صلعم قال: ((إنَّ مؤمني الجنِّ لهم ثواب، وعليهم عقاب))، فسألنا عن ثوابهم فقال: ((على الأعراف وليسوا في الجنَّة)) فقالوا: ما الأعراف؟ قال: ((حائطُ الجنَّة تجري منه الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثَّمار)). وقال الحافظ الذهبيُّ: هذا حديثٌ منكرٌ جدًّا. /
          ثمَّ إنَّ مؤمني الجِنِّ إذا دخلوا الجَنَّة هل يرون الله تعالى، أو أنَّ الرؤية مخصوصةٌ بمؤمني البشر؟
          فقد وقع في كلام ابن عبد السلام في «القواعد الصغرى» ما يدلُّ على أنَّهم لا يرون الله تعالى، وأنَّ الرؤية مخصوصةٌ بمؤمني البشر، فإنه صرَّح بأنَّ الملائكة لا يرون الله تعالى في الجنَّة، ومقتضى ذلك: أنَّ الجنَّ لا يرونه أيضاً.
          ثمَّ الظاهر: أنَّ الجنَّ أيضاً فِرَقٌ قد أخبر الله تعالى عنهم أنَّهم قالوا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] أي: مذاهب شتَّى مسلمون ويهود، وكان جنُّ نصيبين يهوداً.
          وقال الإمام أحمد في كتاب «الناسخ والمنسوخ»: حدَّثنا مطلب بن زياد، عن السدِّي قال: في الجنِّ قدرية ومرجئة وشيعة. وحكى السديُّ أيضاً عن أشياخه: أنَّ في الجنِّ المؤمنَ والكافرَ والمعتزلةَ والجهميةَ، وجميع الفرق.
          فائدة: سئل أبو البقاء العكبري الحنبلي عن الجنِّ: هل يصحُّ الصلاة خلفهم؟ قال: نعم؛ لأنَّهم مكلفون، والنَّبي صلعم أُرسل إليهم أيضاً.
          وروى أبو الشيخ في «تفسيره» عن مغيث بن سُمَي أحدِ التابعين قال: ما من شيءٍ إلَّا وهو يسمع زفير جهنَّم إلَّا الثقلين الذين عليهم الحساب والعقاب.
          وقد جرى بين الإمامين أبي حنيفة ومالك ⌐ في المسجد الحرام مناظرةٌ فيه: فقال أبو حنيفة: ثوابهم السَّلامة من العذاب متمسكاً بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]. وقال مالكٌ: لهم الكرامة بالجنَّة، وحُكْمُ المكلَّفين واحدٌ، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:56].
          وروى ابن أبي حاتم من طريق أبي يوسف قال: قال ابن أبي ليلى في هذا: لهم ثواب، قال: فوجدنا مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132].
          وقد استدلَّ المصنف ☼ أيضاً بذلك حيث قال:
          (لِقَوْلِهِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:130-132]) / فاللام في قوله: لقوله للتعليل؛ لأجل الاستدلال. والآية في سورة الأنعام، قال الله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} قال القاضي: الرسل من الإنس خاصَّة، ولكن لمَّا جمعوا مع الجن في الخطاب صحَّ ذلك، ونظيره: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، والمَرْجَان يخرجُ من الملح دون العذب.
          وتعلَّق بظاهره قوم وقالوا: بُعِثَ إلى كلٍّ من الثَّقلين رسلٌ من جنسهم. وقيل: الرسل من الجنِّ رسل الرسل إليهم؛ لقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]. وعن الكلبيِّ: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلعم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلعم إلى الجنِّ والإنس.
          {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130] يعني: يوم القيامة {قَالُوا} جواباً {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} بالجُرْمِ والعِصْيَان، وهو اعترافٌ منهم بالكفر واستيجاب العذاب {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130] ذمٌّ لهم على سوء نظرهم، وخطأ رأيهم، فإنَّهم اغترُّوا بالحياة الدنيوية، واللَّذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية، حتَّى كان عاقبةُ أمرِهم إن اضطرُّوا إلى الشَّهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلَّد تحذيراً للسامعين عن مثل حالهم.
          {ذَلِكَ} [الأنعام:131] إشارةٌ إلى إرسال الرسل، وهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك {أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131] تعليل للحكم، وأنْ مصدرية، أو مخففة من الثقيلة؛ أي: الأمر ذلك؛ لانتفاء كون ربك، أو لأنَّ الشأن لم يكن ربك مُهلك القرى بسبب ظلم فعلوه، أو ملتبسين بظلم، أو ظالماً، وهم غافلون لم ينبَّهوا برسول، أو بدل من ذلك {وَلِكُلٍّ} من المكلفين {دَرَجَاتٌ} مراتب {مِمَّا عَمِلُوا} من أعمالهم، أو جزائها، أو من أجلها {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون} [الأنعام:132] فيخفى عليه عملٌ أو قدر ما يَسْتَحِقُّ به من ثَوَابٍ أو عِقَاب، وقرأ ابن عامر: بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة.
          ووجهُ الاستدلال بالآية: أنَّ قوله تعالى: {وَيُنْذِرُونَكُمْ} [الأنعام:130] يدلُّ على العقاب، وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19] يدلُّ على الثَّواب. /
          واستدلَّ بهذه الآية أيضاً ابن عبد الحكم.
          واستدلَّ ابن وهب بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأحقاف:18]، فإنَّ الآية بعدها أيضاً: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19].
          ({بَخْساً}: نَقْصاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} [الجن:13] قال الفرَّاء: البَخْسُ: النَّقْصُ، والرَّهَق: الظلم، فدلَّت الآية أنَّ من يكفر يخاف، فتدلُّ على كون الجنِّ مكلفين؛ لأنَّ الآية فيهم. وقال القاضي: أي: نقصاً في الجزاء، ولا أن يرهقه ذلَّة أو جزاء نقص، ولا رهق؛ لأنَّه لم يبخس حقًّا، ولم يرهق ظلماً؛ لأنَّ من حقِّ الإيمان أن يجتنب ذلك.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً}) أي: قال في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات:158] (قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: الْمَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ) أي: ساداتهم، والسَّروات: جمع سَراةٍ جمع: سَرِي، وهو نادرٌ شاذٌّ؛ لأنَّ فعيلاً لا يُجْمَعُ على فَعَلة، كذا قال صاحب «التوضيح». وقال الجوهريُّ: السَّرو: سخاء في مروءة. يقال: سَرَا يَسْرو، وسَرِي، بالكسر، يَسْرِي سَرْواً فيهما، وسَرُوَ يَسْرُو سَرَاوة؛ أي: صار سرِياً، وجمع السَّرِي سَرَاة، وهو جمعٌ عزيز أن يُجْمَعَ فَعِيل على فَعَلة، ولا يعرف غيره، وجمع السَّرَاة: سَرَوَات.
          وأثر مجاهد هذا أخرجه ابن جرير، من حديث ابن أبي نجيح عنه بزيادة: فقال أبو بكر: فمن أمَّهاتهن؟ قالوا: بنات سَرَوَات الجن يحسبون أنَّهم خُلِقوا ممَّا خُلِقَ منه إبليس لعنه الله.
          (قَالَ اللَّهُ: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}[الصافات:158]) والآية في آخر سورة الصافات، قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً}؛ أي: جعل مشركوا مكة بينه؛ أي: بين الله وبين الجِنَّة نَسَباً، وهو زعمهم: أنَّ الملائكة بنات الله، سمُّوا الملائكة جِنَّة؛ لاجتنابهم عن الأبصار.
          والمعنى: جعلوا بما قالوه نسبة بين الله وبين الملائكة، وأثبتوا بذلك جنسية جامعة لله وللملائكة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. وقال الكلبيُّ: قالوا لعنهم الله: بل تزوَّج / من الجن فخرج منها الملائكة، يقال لهم: الجنُّ، ومنهم إبليس هم بَنَات الله، تعالى الله عن ذلك. وقال الحسن: أشركوا الشَّيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه.
          {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} أي: الكفرة القائلين بهذا القول {لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] في النَّار، وإذا فُسِّرت الجِنة بالشياطين يجوز أن يكون الضمير في {إِنَّهُم} للشياطين، والمعنى: ولقد علمت الشياطين إنَّهم لمحضرون، يعني: أنَّ الله يحضرهم النار ويعذِّبهم.
          (سَتُحْضَرُ لِلْحِسَابِ) وفي رواية ابنِ أبي نَجيح، عن مجاهد قال: علمت الجنُّ أنَّهم سيحضرون للحساب، وبهذا الكلام الأخير يُطابق هذا الأثرُ الترجمةَ.
          وأما قوله: ({جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس:75] عِنْدَ الْحِسَابِ) فلا تعلق له بالجنِّ، لكن ذكره لمناسبة الإحضار للحساب. وقد وصله الفريابيُّ من طريق ابن أبي نَجيح عن مجاهد، والآية في سورة يس وأولها: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً} أشركوها به في العبادة بعدما رأوا منه تلك القدرة الباهرة، والنعم المتظاهرة، وعلموا أنَّه المتفرِّد بها، أشار تعالى بهذه الآية إلى زيادة ضلالهم ونهايتها، فإنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنعمه، فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضرُّ ولا ينفع.
          {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} رجاء أن يَنْصُروهم فيما حزبهم من الأمور، ويمنعوهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: خاب أملهم، والأمر على خلاف ما توهَّموا وتوقَّعوا {وَهُمْ لَهُمْ} أي: لآلهتهم {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} في النَّار على ما روي: أن من عَبَدَ شيئاً مِنْ دون الله، فإنَّه يُؤْمَرُ يوم القيامة باللحوق بمعبوده، وعبدةُ الأوثان يجعلون يوم القيامة جنداً لهم، يجمعون إليها، ثمَّ يحضرون عند الحساب ويقذفون في النَّار جميعاً؛ أي: لا يدفع بعضُهم النَّار عن بعض، بل يُجْعَلون جميعاً وقودُ النَّار. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى، وهم لهم جندٌ محضرون معدُّون لحفظهم، والذبِّ عنهم.
          وقال الكِرمانيُّ: يحتمل أن يقال: لفظ آلهة في الآية متناولٌ للجنِّ؛ لأنَّهم أيضاً اتَّخذوا معابيد، والله أعلم.
          وقال العينيُّ: كأنَّه أشار بهذا إلى وجه مناسبة ذكر قوله: {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} هاهنا. وقال الحافظ العسقلاني: وقع لغير الكُشْمِيْهني: <جندٌ محضر> بالإفراد، وروايته / أشبه. وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ الصواب: {مُحْضَرُونَ} [يس:75] بالجمع؛ لأنَّ القرآن هكذا.