نجاح القاري لصحيح البخاري

وقول الله جل وعز: {وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن}

          ░13▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:29-30]) وإنما قال: إلى قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} لأنَّ في تلك الآيات دلالةٌ على وجود الجن، وإشارةٌ إلى أنَّ فيهم مؤمنين، وإلى أنَّ المؤمنين منهم لهم الثواب، وأنَّ الكافرين منهم عليهم العقاب، والآية في سورة الأحقاف، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ}: أي: وجهنا إليك كما سيفسِّره به المصنف، والعامل في {إِذْ} مقدَّر؛ أي: واذكر حين صرفنا إليك.
          {نَفَراً} مفعول صرفنا، والنَّفر دون العشرة، والجمع: أَنْفَار {مِنَ الْجِنِّ} قال المفسرون: لمَّا بين الله تعالى أنَّ الإنسَ منهم مَن آمن ومنهم مَن كفر، بيَّن أنَّ الجنَّ أيضاً منهم مَن آمن ومنهم مَن كفر، وأنَّ مؤمِنَهم مُعَرَّضٌ للثواب، وأنَّ كافِرَهم معرض للعقاب، وكان ملاقاة هؤلاء الجن مع النَّبي صلعم حين انصرف من الطائف / راجعاً إلى مكَّة، إذ يئس من خبر ثقيف، وكان قد خرج إليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته، وأغروا به سفهاء ثقيف حتَّى إذا كان بوادي النَّخلة قام من جوف الليل يتهجَّد، فمرَّ به نفرٌ من جنِّ أهل نصيبين.
          ويُروى: أنَّه كان سبب ذلك: أنَّ الجن كانت تسترق السمع فلمَّا حُرِسَتِ السماءُ ورُجِموا بالشُّهُبِ، قال إبليس: إنَّ هذا الذي حَدَثَ في السماء لشيءٍ حدث في الأرض فبَعث سرايا ليَعرف الخبر، فكان أوَّل بعث ركب من أهل نصيبين، وهم أشراف الجنِّ وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة فاندفعوا حتَّى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلعم يصلِّي صلاة الغداة، ويتلوا القرآن، فاجتمعوا إليه.
          وعن سعيد بن جبير: ما قرأ رسول الله صلعم على الجنِّ، ولا رآهم، وإنَّما كان يتلو في صلاته فمرُّوا به فوقفوا مستمعين، وهو لا يشعر، فأنبأه الله باستماعهم. وقيل: بل أمر الله رسولَه أن ينذر الجنَّ ويقرأ عليهم، فصرف إليه نفراً منهم جمعهم له، فقال: إنِّي أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً، فأطرقوا إلَّا عبد الله بن مسعود ☺ قال: لم يحضره ليلة الجنِّ أحدٌ غيري، فانطلقنا حتَّى إذا كنا بأعلى مكة في شِعب الحجون، وهو مقابر مكة من جانب العراق. وفي الحديث: ((الحجُون والبَقِيع يُنْشَران في الجَنَّة)) فخطَّ لي خطاً وقال: ((لا تخرج منه حتَّى أعود إليك))، ثمَّ افتتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً؛ أي: صوتاً شديداً، حتَّى خفت على رسول الله صلعم ، وغشيته أَسْوِدَة كثيرة حالت بيني وبينه حتَّى ما أسمع صوته، ثمَّ انقطعوا كقطع السحاب، فقال لي رسول الله صلعم : ((هل رأيت شيئاً؟)) قلت: نعم رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض؛ أي: مُدْخِلي أذيالها بين أرجلهم، فقال: ((أولئك جنُّ نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفاً)).
          {يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} حالٌ محمولة على المعنى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي: القرآن أو الرسول {قَالُوا أَنْصِتُوا}: أي: قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمعه وأَصْغوا إلى قراءته {فَلَمَّا قُضِيَ}: أي: أتمَّ وفرغ من قراءته، وقرئ: على البناء للفاعل، وهو ضمير رسول الله صلعم {وَلَّوْا}: أي: رجعوا {إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}: أي: منذرين إيَّاهم بما سَمِعوا، ومحذِّرين عذاب الله إن لم يؤمنوا {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} قيل: إنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم كانوا يهوداً، ولهذا قالوا: من بعد موسى. وعن ابن عباس ☻ : ((كانت الجنُّ لم تسمع أمر عيسى ◙)).
          {مُصَدِّقاً} صفة كتاباً {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب، وقيل: المراد التوراة {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} صفة بعد صفة؛ أي: يهدي إلى العقائد الحقة {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} من الشَّرائع {يَا قَوْمَنَا} أي: قالوا لقومهم: يا قومنا {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أي: النَّبي صلعم {وَآَمِنُوا بِهِ} أي: بداعي الله أو بالله، وهذا أقرب بدليل قوله: {يَغْفِرُ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: بعض ذنوبكم، وهو ما يكون في خالص حقِّ الله، فإنَّ المظالم لا تغفر بالإيمان {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هو معدٌّ للكفَّار، وهو عذاب النار، واحتجَّ به أبو حنيفة ☼ : أن لا ثواب لهم، وقد مرَّ الكلام فيه، وأنَّ الصَّحيح: أنَّهم في حكم بني آدم مكلَّفون مثلهم {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي: الرسول، ولم يؤمن به {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: لا ينجي منه مهرب، ولا يسبق قضاءَه سابقٌ.
          {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ}: أي: أنصار يمنعونه منه / {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29-30] حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه، وعن ابن عباس ☻ : ((أنَّ هؤلاء الجن كانوا سبعة من جنِّ نصيبين، فجعلهم رسول الله صلعم رسلاً إلى قومهم))، وقيل: كانوا تسعة، وقيل: كانوا اثني عشر ألفاً، كما مرَّ.
          والسُّورة التي كان صلعم يقرؤها سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1].
          وذكر ابن دريد من أسماء هؤلاء الجن خمسة وهم: سائر، ومامر، ومنسي، وماسي، والأحقب.
          وذكر ابن سلام في «تفسيره» عن ابن مسعودٍ ☺: ومنهم: عمرو بن جابر. وذكر ابن أبي الدنيا: زوبعة، ومنهم سُرَق. وفي «تفسير عَبْدِ بن حميد»: كانوا من نينوى، وأتوه بنخلة، وقيل: بشعب الحجون.
          ({مَصْرِفاً}: مَعْدِلاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] وفسره بقوله: معدلاً، وبه فسَّر أبو عبيدة، والآية في سورة الكهف قال الله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا} [الكهف:53]: أي: أيقنوا {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً}: أي: مكاناً يعدلون وينصرفون إليه، أو انصرافاً.
          ({صَرَفْنَا} أَيْ وَجَّهْنَا) أشار به إلى تفسير ما في الآية المتقدِّمة من قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29]، وفسَّر {صَرَفْنَا} بقوله: وجَّهنا. وقيل: معناه: أَمَلنا إليك، وقيل: أقبلنا بهم نحوك، وقيل: ألجأناهم، وقيل: وفَّقْناهم بِصَرْفِنا إيَّاهم عن بِلادِهم إليك.
          تنبيه: لم يذكر البخاريُّ في هذا الباب حديثاً، واللائق به حديث ابن عباس ☻ الذي تقدم في صفة الصلاة في توجه النَّبي صلعم إلى عكاظ واستماع الجنِّ لقراءته [خ¦773].