نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي أتاني رجلان

          3268- (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى) أي: ابن يزيد الفرَّاء، أبو إسحاق الرَّازي، يعرف بالصَّغير، قال: (أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُوْنُسَ) أي: ابن أبي إسحاق السَّبيعي (عَنْ هِشَامٍ) هو: ابنُ عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ ♦) أنَّها (قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلعم ، وَقَالَ اللَّيْثُ) هو: ابنُ سعد. وقد وصله أبو بكر عبد الله بن أبي داود، عن عيسى بنِ حماد النُّجيبيِّ المصريِّ، عن اللَّيث (كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ: أَنَّهُ سَمِعَهُ وَوَعَاهُ) أي: حفظه (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ ♦) أنَّها (قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلعم ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) على البناء للمفعول، من تخيَّل الشيء كذا، وليس كذلك، وأصله الظَّن.
          (أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ) من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم؛ لأنَّ معنى ذات يوم قطعة من الزمان ذات يوم؛ أي: صاحبة هذا الاسم.
          (دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ) أي: أعلمتِ (أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي) ويُرْوَى: <أنبأني> أي: أَخْبَرني (فِيمَا فِيهِ شِفَائِي، أَتَانِي رَجُلاَنِ: فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ) أي: مسحورٌ، والطب قد جاء بمعنى السِّحر.
          (قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ) أي: من سَحَره (قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ) بالمهملتين، اليهوديُّ (قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشُطٍ) فيه لغاتٌ: ضم الميم وإسكان الشين وضمها أيضاً، وكسر الميم وإسكان الشين (وَمُشَاقَةٍ) بضم الميم وتخفيف الشين المعجمة والقاف. قال الكِرمانيُّ: ما يغزل من الكتَّان، وقال العينيُّ: المشاقة: ما يخرج من الكتَّان حين يُمْشَق، والمشقُ: جذب الشَّيء ليمتدَّ / ويطول.
          (وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ) بإضافة طَلْعة إلى ذَكَر، الجُفِّ: بضم الجيم وتشديد الفاء: وعاءُ طلع النَّخل، وهو الغشاء الَّذي يكون عليه، ويُطلق على الذَّكر والأنثى، ولهذا قيَّده بقوله: ذكر، وهو الذي يدعى بالكُفَري، وقال ابن فارس: جفُّ الطَّلع: وعاؤها، ويقال: إنَّه شيءٌ ينقر من جذوع النَّخل. وقال الهرويُّ: ويروى: <في مشط ومشاطة في جفِّ طلعة> قال: المشاطة: الشَّعر الذي يسقط من الرَّأس واللِّحية عند التَّسريح بالمشط، قال: وجُفَّ طلعة: أي: في جوفها.
          وقوله: ذكر، الذَّكر من النَّخل الذي يُؤخذ طلعه، فيُجعل منه في طلع النَّخلة المثمرة، فيصيرُ بذلك تمراً، ولو لم يجعل فيه لكان شيصاً، ولا يكاد يُسَاغ.
          (قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ) بفتح الذال وسكون الراء، ويروى: <ذي أروان> وكلاهما صحيحٌ، والأوَّل أصحُّ، وهي بئرٌ بالمدينة في بستانٍ لبنيٍّ زُرَيْق: بضم الزاي وفتح الراء وسكون المثناة التحتية وبالقاف.
          (فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلعم ) وفي رواية: ((بعث رسول الله صلعم عليًّا والزُّبير وعمار بن ياسر ♥ ، فنزحوا ماءَ تلك البئر كأنَّه نقاعة الحنَّاء، ثمَّ رفعوا الصَّخرة وأخرجوا الجُفَّ، فإذا فيه مشاطة رأسه، وأسنان من مشطهِ، وإذا فيه وتر معقودٌ فيه إحدى عشرة عُقْدة مغروزةٌ بالإبر))، فأنزل الله تعالى المعوَّذتين، فجعل كلَّما قرأ آية انحلَّت عُقدة، ووجد صلعم خِفَّة حتَّى إذا انحلَّت العقدة الأخيرة قام صلعم كأنَّما نشط من عُقال، وجعل جبريلُ ◙ يقول: ((بسمِ الله أَرْقيك، من كلِّ شرٍّ يُؤذيك، ومن كلٍّ حاسدٍ ومن عينٍ، والله يَشفيك)).
          ويمكن أن يقال: إنَّه خرج إليها بنفسه أوَّلاً، ولم يستخرج، ثمَّ بعثهم، فنزحوا ماءها، وأخرجوا الجُفَّ المذكور، والله تعالى أعلم.
          (ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ ♦ حِينَ رَجَعَ نَخْلُهَا) أراد به طلعها؛ لأنَّ السِّحر كان في الطَّلع، وإنَّما أضاف النَّخل إلى البئر؛ لأنَّه كان مدفوناً فيها (كَأَنَّهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) قال الخطابيُّ: فيه قولان:
          أحدهما: أنها مستدقَّة كرؤوس الحيَّات، والحيَّة يقال لها: الشَّيطان.
          والآخر: أنَّها وحشيَّة المنظر سمجة الأشكال، / وهو مَثَلُ في استقباحِ صورتها، وهَوْلِ منظرها، كصورةِ الشَّياطين. وقال القاضي: كأنَّه رؤوس الشَّياطين في تَناهي القُبح والهول، وهو تشبيهٌ بالمتخيل كتشبيهِ الفائق في الحسن بالمَلَك. وقيل: الشَّياطين: حيَّات هائلةٌ قبيحةُ المنظر لها أعراف، ولعلَّها سمِّيت بها لذلك؛ أي: لهولها وقُبْح مَنْظرها، فيكون تشبيهاً بالمحقَّق.
          (فَقُلْتُ: اسْتَخْرَجْتَهُ) بهمزة الاستفهام؛ أي: ذلك الجُفَّ (فَقَالَ: لاَ، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا) يعني: خِفْتُ أن يتعلَّموا من أجزائه شيئاً، فتركته في تلك البئر على ما وجدته، فلم أخرجْه (ثُمَّ دُفِنَتِ الْبِئْرُ) بلفظ البناء للمفعول. وفي رواية: فقالوا: يا رسول الله، أفلا نأخذ الخبيثَ فنقتلُه؟ فقال صلعم : ((أمَّا أنا فقدْ شَفَاني الله، وأكره أن أُثِير على النَّاس شرًّا)) قالت عائشة ♦: ما غضبَ رسول الله صلعم غضباً ينتقم من أحدٍ لنفسه قط، إلَّا أن يكون شيئاً هو لله، فيغضبُ لله وينتقم.
          قال الخطابيُّ: وأنكر قومٌ حقيقة السِّحر، ودفع آخرون هذا الحديث، وزعموا: أنَّه لو جازَ أن يكون للسحر في الأنبياء ‰ تأثيرٌ لم يؤمَن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمرِ الدِّين.
          والجواب: أنَّ السِّحر ثابتٌ، وحقيقته موجودة، وقد ذكر الله في قصَّة سليمان ◙: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]، وقال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
          وقد اشتهر بين العامَّة من عقد الرجال عن المباشرة، وهو من المشاهير الصَّادقة الحقَّة.
          وقد فرع الفقهاء على السِّحر أحكاماً، واتَّفق أكثر الأمم من العرب والفرس والهند والروم على إثباته، وأمَّا ما زعموا من دخول الضَّرر على أمر النُّبوَّة، فليس الأمر على ذلك، والأنبياء ‰ بشرٌ جاز عليهم من الأمراض والعِلَل ما جازَ على غيرهم، إلَّا فيما خصَّهم الله من العِصْمة من الأمراض المنفِّرة، ومن الخلل في أمر الدِّين، فليس تأثير السِّحر في أبدانهم بأكثر من القتلِ والسم.
          وقد قُتِلَ زكريا ويحيى ♂، ونبيُّنا صلعم قد سُمَّ بخيبر، ولم يكن ذلك دافعاً لفضيلتهِم، وموجباً لنقيصتهِم، وإنَّما هو ابتلاءٌ من الله، وقد قال صلعم : ((إنا معاشرَ الأنبياء يضاعف علينا البلاء، كما يضاعفُ لنا الثَّواب)).
          وأمَّا ما يتعلَّق بالنَّبوة: فقد عَصمه الله تعالى من أن يَلحقه الفساد، وإنما كان يخيَّل إليه أنَّه يفعل الشيءَ، ولا يفعله في أمر النِّساء، خصوصاً في إتيان أهله إذا كان قد أُخِذَ عنهنَّ / بالسِّحر دون ما سواه من الدِّين، وذلك من جملة ما تضمَّنه قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102].
          فلا ضرر فيما لحقه من السِّحر على نبوَّته، ولا نقصَ فيما أصابه منه على شريعتهِ، والحمدُ لله على ذلك. وقال النوويُّ: لا استنكار عقلاً في أنَّ الله تعالى يخرقُ العادة عند النُّطق بكلامٍ يُلَفَّق، أو تركيب أجسادٍ، أو المزج بين قوى على ترتيبٍ لا يعرفُه إلَّا السَّاحر. قال: وفي الحديث استحباب الدُّعاء عند حصولِ المكروهات. وفيه أيضاً: كمالُ عفو رسول الله صلعم ، وترك مصلحة؛ لخوفِ مفسدةٍ أعظم منها، وهي أن يقعَ بين المسلمين وبين قبيلة السَّاحر فتنة.
          وقال القاضي عياض: إنَّما سُلِّط السِّحرُ على جسده وظواهر جوارحه لا على عقلهِ واعتقادهِ، وكان يظهرُ له من نشاطهِ ومتقدم عادتهِ القدرةُ على النِّساء، فإذا دنا منهنَّ أخذتْه أخذة السِّحر، فلم يتمكَّن من ذلك.
          وقال غيره: وفيه: أنَّ آثار الفعل الحرام ينبغِي أن تُزَالَ وتُمْحَى، وكأنَّه أخذَه من قوله: ((ثمَّ دُفِنَتِ البئرُ)). والحديثُ قد مَضى في باب هل يُعفى عن الذِّمِّي إذا سُحر في أواخر الجهاد [خ¦3175]، وسيأتي في الطب أيضاً [خ¦5763].
          ووجه إيراده هنا: من جهة أنَّ السِّحر إنما يتمُّ باستعانة الشَّياطين على ذلك، وسيأتي إيضاح ذلك في الطِّب إن شاء الله تعالى.