نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صفة الشمس والقمر

          ░4▒ (باب صِفَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ {بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] قَالَ مُجَاهِدٌ: كَحُسْبَانِ الرَّحَى) وصله الفريابي في «تفسيره» من طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، ومراده: أنَّهما يجريان بحسبانٍ معلومٍ كجري الرَّحى، يعني: على حساب الحركة الرحويَّة الدَّورية وعلى وضعها.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غير مجاهدٍ في تفسير الآية المذكورة (بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لاَ يَعْدُوَانِهَا) أي: لا يتجاوزان المنازل، وصله عبد بن حميد من طريق أبي مالك وهو الغفاري، وروى الطَّبري والحربي عن ابن عبَّاس ☻ نحوه بإسنادٍ صحيحٍ، ومعناه: يجريان بحسابٍ معلومٍ مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتَتَّسقُ بذلك أمور الكائنات السُّفلية، / وتختلف الفصول الأربعة والأوقات، وتعلم السُّنون والحساب.
          (حُسْبَانٌ: جَمَاعَةُ حِسَابٍ، مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ) يعني: أنَّ حسبان جمع حساب، كشهبان جمع شهب، وهذا قول أبي عبيدة في «المجاز». وقال الإسماعيلي: من جعله من الحساب احتمل الجمع واحتمل المصدر، تقول: حسبت حسباناً وحساباً، يعني: أنَّ الحسبان قد يكون مصدراً مثل: الغفران والكفران والرُّجحان والنُّقصان.
          وقد يكون جمع الحساب مثل: الشهبان والرُّكبان والقضبان والرهبان، وهو من الحساب بالفتح في الماضي، من الظَّن بالكسر فيه.
          ({ضُحَاهَا} ضَوْؤهَا) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وفسَّر الضُّحى: بالضَّوء، وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} قال: ضوؤها.
          وقال الإسماعيلي: يريد أنَّ الضُّحى يقعُ في صدر النَّهار، وعنده تشتدُّ إضاءة الشَّمس.
          وروى ابن أبي حاتم من طريق قتادة والضَّحاك قال: ضحاها: النَّهار، وفي «تفسير النسفي»: {وَالشَّمَسِ وَضُحَاهَا}: إذا أشرقت وقام سلطانها، ولذلك قيل: وقت الضُّحى، وكأنَّ وجهه شمس الضُّحى، وقيل: الضَّحوة: ارتفاع النَّهار، والضُّحى: فوق ذلك، والضَّحاء: بالفتح والمد: إذا امتدَّ النَّهار وكاد ينتصف.
          ({أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} لاَ يَسْتُرُ ضَوْءُ أَحَدِهِمَا ضَوْءَ الآخَرِ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُمَا ذَلِكَ) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]، وصله الفريابي في «تفسيره» من طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهدٍ بتمامه. قال الضَّحاك: معناه: لا يزول الليل من قبل مجيء النَّهار، وقال الدَّاودي: أي: لا يأتي الليل في غير وقته.
          وقوله: ({سَابِقُ النَّهَارِ} يَتَطَالَبَانِ حَثِيثَانِ) أي: سريعين، وقال تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف:54] أي: سريعاً، إشارة إلى تفسير قوله تعالى: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40]. قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا} أي: يصحُّ لها ويتسهَّل {أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} في سرعة سيره، فإنَّ ذلك يخلُّ بتكوُّن النَّبات وتَعَيُّشِ الحيوان، / أو في آثاره ومنافعه، أو مكانه بالنُّزول إلى محلِّه أو سُلطانه فتطمس نوره، وإيلاء حرف النَّفي الشَّمس للدَّلالة على أنَّها مُسَخَّرة لا يتيسَّر لها إلَّا ما قُدِّر لها.
          {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40] يسبقه فيفوته ولكن يعاقبه؛ أي: لا يدرك سوادُ اللَّيل ضوءَ النَّهار فيغلبه على ضوئه، فالمراد من السَّبق هنا: الغلبة، والمعنى: أنَّهما لا يزالان يتعاقبان ولا يجتمعان إلَّا عند إبطال الله تعالى هذا التَّأليف وتطلع الشَّمس من مغربها ويجمع معها القمر وذلك من أشراط السَّاعة.
          وقيل: المراد بهما آيتاهما وهما: النيران، وبالسَّبق سبق القمر إلى سلطان الشَّمس فيكون عكساً للأول وتبديل الإدراك بالسَّبق؛ لأنَّه الملائم لسرعة سيره.
          {وَكُلٌّ} أي: وكلهم، والتَّنوين عوض المضاف إليه، والضمير للشموس والأقمار فإنَّ اختلاف الأحوال يوجب تعدداً ما في الذَّات أو إلى الكواكب، فإنَّ ذِكْرها مشعرٌ بها {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] يسيرون فيه بانبساطٍ؛ أي: كلُّ واحدٍ في فلكه يسير ويدور بالانبساط لا مزاحم له كمن يسبح في البحر، قيل: الأفلاك كثيرةٌ مختلفةٌ في السَّير تقصع الشَّمسُ فلكها كلَّ سنةٍ مرةً، والقمر يقطع في ثمانية وعشرين يوماً مرةً، وقيل: الفلك واحدٌ وجريهما مختلف، وهو خلاف الظَّاهر، والله تعالى أعلم.
          ({نَسْلَخُ} نُخْرِجُ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ وَنُجْرِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) وصله الفريابيُّ من طريق ابن أبي نجيح أيضاً بلفظ: يخرج أحدهما من الآخر، ويجري كلُّ واحدٍ منهما. وهو إشارةٌ إلى تفسير قوله تعالى: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] أي: نزيله ونكشف عن مكانه {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37] أي: داخلون في الظَّلام، والسلخ: الإخراج، يقال: سلخت الشَّاة من الإهاب والشَّاة مسلوخة، والمعنى: أخرجنا النَّهار من الليل إخراجاً لم يبق معه شيءٌ فاستعير السَّلخ؛ لإزالة الضَّوء وكشفه عن مكان اللَّيل وملقى ظلِّه.
          وقوله: ((نخرج أحدهما من الآخر، ونجري كلَّ واحدٍ منهما)) بالنون على ما في رواية، ولما كان السَّلخ إخراج / النَّهار من الليل، وبالعكس أيضاً عمَّم البخاري فقال: بلفظ أحدهما من الآخر.
          وإعراب الآية الكريمة: أنَّ {اللَّيْلُ} مبتدأ، و{نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} خبره، والجملة خبر {آيَةً}، أو قوله: {نَسْلَخُ} صفة {اللَّيْلُ} إذ لم يرد به معيَّن و{اللَّيْلُ} الخبر أو المبتدأ والآية خبره، أو قوله: {نَسْلَخُ} [يس:37] استئناف لبيان كون الليل آية، والله تعالى أعلم.
          ({وَاهِيَةٌ} وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] وفسَّر الوهي بالتَّشقق، هذا قول الفراء، وروى الطَّبري عن ابن عبَّاس ☻ : واهية: متمزِّقة ضعيفةٌ، وقيل: ضعيفة مسترخية.
          ({أَرْجَائِهَا} مَا لَمْ يَنْشَقَّ مِنْهَا، فهم على حافتيها، كَقَوْلِكَ: عَلَى أَرْجَاءِ الْبِئْرِ) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17] وفسَّر الأرجاء بقوله: ما لم ينشقَّ منها، ثمَّ نوَّره بقوله: فهم على حافتيها إشارةٌ إلى أنَّ الأرجاء جمع: الرجا مقصوراً، وهي بمعنى الحافَّة، والرجوان: حافتا البئر.
          ووقع في رواية غير الكُشميهني: <فهو على حافتيها>، وكأنَّه أفرد الضَّمير باعتبار لفظ الملك، وجمع باعتبار الجنس، وروى عبد بن حميد، عن قتادة في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}؛ أي: على حافَّات السَّماء.
          وروى الطَّبري: عن سعيد بن المسيَّب مثله، وعن سعيد بن جبير: على حافَّات الدُّنيا. وصوَّب الأول، وأخرج عن ابن عبَّاس ☻ قال: والملك على حافات السَّماء حين تشقق.
          قال القاضي: ولعله تمثيل لخراب السَّماء بخراب البنيان، وانضواء أهلها إلى أطرافها وحواليها، وإن كان على ظاهره، فلعلَّ هلاك الملائكة إثر ذلك. انتهى.
          قال: ولعلَّه تمثيلٌ... إلى آخره، جواب عمَّا عسى أن يقال: الملائكة يموتون عند النَّفخة الأولى؛ لقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فكيف يكون الملك على أرجائها؟ يعني: أَّنه ليس على الحقيقة، فلا مخالفة.
          وقوله: وإن كان على ظاهره...إلى آخره يريد: أنَّ / وقوفهم لحظةً على أرجائها وموتهم بعدها لا ينافي التَّعقيب المدلول عليه بالفاء.
          ({أَغْطَشَ} وَ{جَنَّ} أَظْلَمَ) أشار بقوله: {أَغْطَشَ} إلى قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} [النازعات:29]، وبقوله: و{جَنَّ} إلى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] وفسَّرهما بقوله: أظلم. فالأول تفسير قتادة، أخرجه عبد بن حميد من طريقه، قال: قوله: {أَغْطَشَ لَيْلَهَا}؛ أي: أظلم ليلها، وقد توقف فيه الإسماعيلي فقال: معنى أغطش ليلها: جعله مظلماً، وأمَّا أغطش الغير المتعدِّي فهو صحيح المعنى، ولكن المعروف أظلم الوقت: جاءت ظلمته، وأظلمنا: وقعنا في ظلمة.
          وقال الحافظ العسقلاني: لم يرد البخاريُّ القاصر؛ لأنَّه في نفس الآية متعدٍّ، وإنَّما أراد تفسير قوله: أغطش فقط، هذا وفيه نظرٌ.
          وأمَّا الثَّاني: فهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}؛ أي: غطَّى عليه وأظلم.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) هو: البصري ({كُوِّرَتْ}: تُكَوَّرُ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْؤهَا) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]. قال الحسن البصري: معنى {كُوِّرَتْ}: تكوَّر حتَّى يذهب ضوؤها. وصله ابنُ أبي حاتم من طريق رجاء عنه.
          وكأنَّ هذا كان يقوله قبل أن يسمع حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة ☺ الآتي ذكره في هذا الباب [خ¦3200]، وإلَّا فمعنى التَّكوير اللَّف تقول: كوَّرت العمامة تكويراً، إذا لففتها، والتَّكوير أيضاً الجمع تقول: كوَّرته إذا جمعته.
          وقد أخرج الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] يقول: أَظْلمت، ومن طريق الربيع بن خُثَيم قال: كُوِّرت؛ أي: رمي بها.
          ومن طريق أبي يحيى، عن مجاهد: {كُوِّرَتْ} قال: اضمحلَّت، قال الطَّبري: التَّكوير في الأصل: الجمع، وعلى هذا فالمراد أنَّها تُلَفُّ وتُرْمَى بها فيذهب ضوؤها.
          وقال القاضي: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} لُفَّتْ، من كوَّرتُ العمامةَ إذا لففتها بمعنى رُفِعَتْ؛ لأنَّ الثَّوب إذا أريد رفعُه لُفَّ، أو لُفَّ ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق، وزال أثره، أو أُلقِيت عن فلكها، من طَعَنَه فكوَّره: إذا ألقاه مجتمعاً، والتَّركيب للإدارة والجمع. انتهى.
          ({وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} جَمَعَ مِنْ دَابَّةٍ) وصله عبدُ بن حميد من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن / نحوه، قال القاضي: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] وما جَمَعَه وسَتَره من الدَّواب وغيرها.
          ({اتَّسَقَ}: اسْتَوَى) أشار به إلى قوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18]، وفسَّره بقوله: استوى، وصله عبد بن حميد أيضاً من طريق منصور عنه، وأصل اتَّسق: اوتسق قلبت الواو تاء وأدغمت التاء في التاء، قال القاضي في «تفسيره»: اجتمع وتمَّ بدراً.
          ({بُرُوجاً}: مَنَازِلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) أشار به إلى قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [الفرقان:61]، وفسَّر البروج: بمنازل الشَّمس والقمر. وروى الطَّبري من طريق مجاهدٍ قال: البروج: الكواكب، ومن طريق أبي صالح قال: هي النُّجوم الكبار، وقيل: هي قصور في السَّماء. رواه عبد بن حميد من طريق يحيى بن رافع، ومن طريق قتادة قال: هي قصورٌ على أبواب السَّماء فيها الحَرَس.
          وعند أهل الهيئة: البروجُ غيرُ المنازل؛ فالبروج اثنا عشر، والمنازل ثمانيةٌ وعشرون؛ فكلُّ برجٍ عبارةٌ عن منزلتين وثلث منها، وبهذا يحصل الجواب عمَّا قيل: كيف فسَّر البروج بالمنازل، والبروج اثنا عشر، والمنازل ثمانية وعشرون أو المراد بالمنازل معناها اللُّغوي لا التي عليه أهل التَّنجيم.
          وقال القاضي في «تفسيره»: يعني: البروج الاثني عشر سمِّيت به، وهي القصور العالية؛ لأنَّها للكواكب السَّيارة كالمنازل لسكَّانها، واشتقاقه من التَّبرج لظهوره.
          ({الْحَرُورُ} بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْسِ) أشار بهذا إلى قوله تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر:21]، وفسَّر الحرور بأنَّه يكون بالنَّهار مع الشَّمس، كذا روي عن أبي عبيدة. وقال الفراء: الحرور: الحرُّ الدَّائم ليلاً كان أو نهاراً، والسموم بالنَّهار خاصةً.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَرُؤْبَة) بضم الراء، هو: ابن العجاج، واسمه: عبدُ الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كنيف بن عميرة بن حيي بن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد التَّميمي السَّعدي، من سعد تميم البصريِّ، هو وأبوه راجزان مشهوران عالمان باللغة، وهما من الطَّبقة التَّاسعة من رُجَّاز الإسلام.
          (الْحَرُورُ بِاللَّيْلِ وَالسَّمُومُ بِالنَّهَارِ) / قال الحافظ العسقلاني: أمَّا قول ابن عبَّاس ☻ فلم أره موصولاً، وأمَّا قول رؤبة فذكره أبو عبيدٍ عنه في «المجاز». وقال السُّدي: المراد بالظِّل والحرور في الآية: الجنَّة والنَّار. أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وقال القاضي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر:58] الكافر والمؤمن، وقيل: هما مَثلان للصَّنم ولله ╡ {وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} [فاطر:20] ولا الباطل ولا الحق {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} [فاطر:21] ولا الثَّواب ولا العقاب ولا لتأكيد نفي الاستواء، وتكريرها على الشقين لمزيد التَّأكيد، والحرور: فعول من الحرِّ غلب على السموم، وقيل: السموم ما يهبُّ نهاراً، والحرور: ما يهبُّ ليلاً.
          {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22] تمثيلٌ آخر للمؤمنين والكافرين أبلغ من الأول، ولذلك كرَّر الفعل وقيل: للعلماء والجهَّال.
          (يُقَالُ: {يُولِجُ} يُكَوِّرُ) أشار به إلى قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد:6]، وفسَّره بقوله: يكوِّر.
          قال الحافظ العسقلاني: يكور كذا؛ يعني: بالراء، في رواية أبي ذرٍّ، ورأيت في رواية ابن شبوية: <يكوِّن> بالنون، وهو أشبه.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ الأشبه بالراء؛ لأنَّ معنى يكور: يلفُّ النَّهار في الليل، وقال أبو عبيدة: يولج؛ أي: ينقص من الليل فيزيد في النَّهار وكذلك النَّهار.
          وروى عبد بن حميد من طريق مجاهد قال: ما نقص من أحدهما دخل في الآخر يتقاصَّان ذلك في السَّاعات، ومن طريق قتادة نحوه قال: يولج ليل الصَّيف في نهاره؛ أي: يدخل، ويدخل نهار الشِّتاء في ليله.
          ({وَلِيجَةً}: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ) أشار بهذا إلى لفظ: {وَلِيجَةً} المذكور في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، وقد فسَّر {وَلِيجَةً} بقوله: كلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ. وهذا قول أبي عبيدة، قال في قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} كلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ ليس منه، والمعنى: لم يتَّخذوا / أولياء ليسوا من المسلمين.
          ومعنى الآية والله تعالى أعلم: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أيُّها المؤمنون فهو خطابٌ للمؤمنين حين كره بعضهم القتال، وقيل: للمنافقين، وأم منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التَّوبيخ على الحسبان.
          {أَنْ تُتْرَكُوا}: أي: لا يترككم الله مهملين لا يختبركم بأمورٍ يظهر فيها أهل العزم والصِّدق من الكاذب، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي: ولم يتبيَّن الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا من غيرهم، نفى العلم وأراد به نفي المعلوم للمبالغة، فإنَّه كالبرهان عليه من حيث إنَّ تعلُّق العلم به مستلزمٌ لوقوعه.
          {وَلَمْ يَتَّخِذُوا}: عطف على جاهدوا داخل في الصِّلة {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي: بطانةً ودخيلة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، قيل: البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتَّخذ الرَّجل من المسلمين دخيلاً من المشركين يفشي إليه أسرارهم، وقيل: الوليجة: الخيانة والخديعة. وقال ابن قتيبة: كلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ ليس منه فإنَّه وليجة، وما في لمَّا من معنى التَّوقع منبه على أنَّ تبيُّن ذلك مُتَوَقَّع.
          {وَاللَّهُ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: يعلم غرضكم منه، وهو كالمزيج لما يتوهَّم من ظاهر قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} [آل عمران:142].
          واعلم أنَّ الألفاظ التي ذكرها من قوله: ((قال مجاهد)) إلى الحديث ليست بمذكورةٍ في بعض النُّسخ، وفي بعض النُّسخ: وُجِدَ بعضُ هذه الألفاظ وتفاسيرها [في]: ((باب صفة الشَّمس والقمر)).