نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: في النجوم

          ░3▒ (بابٌ) بالتنوين (فِي النُّجُومِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}) أي: في تفسير هذا النَّظم الكريم (خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأ،َ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ) أمَّا جعلها زينةً للسَّماء فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا}؛ أي: أقرب السَّماوات إلى الأرض {بِمَصَابِيحَ} بكواكب مضيئة إضاءة السَّرج فيها، ولا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سماواتٍ فوقها، إذ التَّزيين بإظهارها عليها والتَّنكير للتَّعظيم، وأمَّا جعلها رجوماً للشَّياطين فقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] أي: وجعلنا لها فائدةً أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشُّهب المسببة عنها.
          ويقال: معناه: وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس وهم: المنجِّمون، والرُّجوم: جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمِّي به ما يرجم به.
          وأمَّا كونها علامات فقد قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ؛ أي: بالليل في البراري والبحار، والمراد بالنَّجم: الجنس، ويدلُّ عليه قراءة: ((وَبِالنُّجُمِ)) بضمتين وضمة وسكون على الجمع، وقيل: الثُّريا والفرقدان وبنات نعش / والجدي، ولعلَّ الضَّمير لقريش؛ لأنَّهم كانوا كثيري الأسفار للتِّجارة مشهورين بالاهتداء في مسائرهم بالنُّجوم.
          وإخراج الكلام عن الخطاب وتقديم (وبالنَّجم)، وإقحام الضَّمير للتَّخصيص كأنَّه قيل: وبالنَّجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون، فالاعتبار بذلك، والشُّكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم.
          وهذا التَّعليق وصله عبدُ بن حميد في «تفسيره»: عن يونس، عن سفيان عنه وزاد في آخره: ((وأنَّ ناساً جهلةً بأمر الله قد أحدثوا في هذه النُّجوم كهانة من غرس بنجم كذا كان كذا، ومن سافر بنجم كذا كان كذا، ولعمري ما من النُّجوم نجمٌ إلَّا ويولد به الطَّويل والقصير والأحمر والأبيض والحسن والدَّميم، وما علم هذه النُّجوم، وهذه الدَّابة وهذا الطَّائر بشيءٍ من هذا الغيب)). انتهى.
          وبهذه الزِّيادة تظهر مناسبة إيراد المصنف ما أورده من تفسير الأشياء التي ذكرها من القرآن، وإن كان ذِكْرُ بَعْضِها وَقَعَ استطراداً، والله تعالى أعلم.
          قال الدَّاودي: قول قتادة في النُّجوم حسنٌ إلَّا قوله: ((أخطأ وأضاع نصيبه)) فإنَّه قصَّر في ذلك، بل قائل ذلك كافر. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: ولم يتعيَّن الكفر في حقِّ من قال ذلك، وإنَّما يكفر من نسب الاختراع إلى النُّجوم، وأمَّا من جعلها علامة على حدوث أمرٍ في الأرض فلا.
          وقد تقدَّم تقريرُ ذلك وتفصيلهُ في الكلام على حديث زيد بن خالد فيمن قال: ((مُطِرْنا بِنَوء كذا)) في باب ((الاستسقاء)) [خ¦1038]، وفي كتاب «الأنواء» لأبي حنيفة: المنكر في الذَّم من النُّجوم نسبة الأمر إلى الكواكب، وأنَّها هي المؤثرة، وأمَّا من نسب التَّأثير إلى خالقها، وزعم: أنَّه نصبها أعلاماً، وصيَّرها آثاراً لما يحدثه، فلا جناح عليه.
          وفي «ذم النجوم» للخطيب البغدادي من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن البحتري بن عبيد، عن أبيه، عن أبي ذرٍّ، عن عمر ☻ مرفوعاً: ((لا تسألوا عن النُّجوم)).
          ومن حديث عبيد الله بن موسى، عن الربيع بن حبيب، عن نوفل بن عبد الملك، عن أبيه، عن عليٍّ ☺: / ((نهاني رسول الله صلعم عن النَّظر في النُّجوم)). وعن أبي هريرة وابن مسعود وعائشة وابن عبَّاس ♥ نحوه.
          وعن الحسن: أنَّ قيصر سأل قس بن ساعدة الإيادي: هل نظرت في النُّجوم؟ قال: نعم نظرت فيما يراد به الهداية، ولم أنظر فيما يراد به الكهانة.
          فائدة: ذكر ابن دحية في «التنوير» من طريق أبي عثمان النَّهدي، عن سلمان الفارسي ☺ قال: النُّجوم كلُّها معلَّقة كالقناديل من السَّماء الدُّنيا كتعليق القناديل في المساجد، يعني: ليست مركوزة في ثخنها، كما زعم الفلاسفة، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {هَشِيماً}: مُتَغَيِّراً) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45]. قال الحافظ العسقلانيُّ: لم أره عن ابن عبَّاس من طريقٍ موصولةٍ، لكن ذكره إسماعيل بن أبي زياد في «تفسيره» عن ابن عبَّاس ☺، وقال أبو عبيدة: قوله: {هَشِيماً} أي: يابساً متفتِّتاً، و{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تُفَرِّقه.
          هذا، وقد جرت عادة البخاريِّ بأنَّه إذا ذكر آيةً أو حديثاً في التَّرجمة ونحوها يذكر أيضاً بالتَّبعية على سبيل الاستطراد ما له أدنى ملابسةً بها تكثيراً للفائدة.
          (وَالأَبُّ: مَا يَأْكُلُ الأَنْعَامُ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:31] هو تفسير ابن عبَّاس ☻ أيضاً، وصله ابن أبي حاتم من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه عنه قال: الأبُّ: ما أنبتت الأرض ممَّا تأكله الدَّواب ولا يأكله النَّاس. ومن طريقٍ آخر قال: الأبُّ: الحشيش، ومن طريق عطاء والضَّحاك: الأبُّ: كلُّ شيءٍ ينبت على وجه الأرض، زاد الضَّحاك: إلَّا الفاكهة.
          وروى ابن جرير من طريق إبراهيم التَّيمي: أنَّ أبا بكرٍ الصِّديق ☺ سئل عن الأبِّ فقال: أي سماءٍ تظلني وأيُّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علمٍ. وهذا منقطع.
          وعن عمر ☺ أنَّه قال: عرفنا الفاكهة فما الأبُّ؟ ثمَّ قال: / إنَّ هذا لهو التَّكلف، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأبُّ؟ ثمَّ قال: اتبعوا ما تبيَّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فَدَعُوه.
          فإن قلت: فهذا أثبت النَّهي عن تَتَبُّعِ معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته، قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن كان القوم أكبر همِّهم عاكفة على العمل، وكان التَّشاغل بشيءٍ من العلم لا يُعْمَلُ به تَكَلُّفاً عندهم، فأراد أنَّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بطعامه، واستدعاء شكره.
          وقد علم من فحوى الآية أنَّ الأبَّ: بعض ما أُنبت للإنسان متاعاً له ولأنعامه، فعليك بما هو أهمُّ، من النُّهوض بالشُّكر على ما تبيَّن لك، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الآية، كذا في «الكشاف». وهو صحيحٌ عنه أخرجه عبد بن حميد، من طرقٍ صحيحةٍ، عن أنسٍ، عن عمر ☻ ، وسيأتي بيان ذلك في ((الاعتصام)) [خ¦7293].
          ((الأَنَامُ): الْخَلْقُ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا} [الرحمن:10] أي: خفضها مدحوة {لِلأَنَامِ}، وفسَّر الأنام بقوله: الخلق. وهو تفسير ابن عبَّاس ☻ أيضاً رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه في الآية المذكورة، والمراد بالخلق: المخلوق، وروي من طريق سماك عن عكرمة عنه قال: الأنام: النَّاس، ومن طريق الحسن قال: الجنُّ والإنس، وعن الشَّعبي: هو كلُّ ذي روحٍ.
          ({بَرْزَخٌ} حَاجِبٌ) بالباء الموحدة في قول الأكثرين، وفي رواية المُسْتملي والكُشميهني: <حاجز> بالزاي موضع الباء من حجز بين الشَّيئين إذا حال بينهما، وهذا إشارةٌ إلى ما في قوله: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:20] فسَّره بقوله: حاجب. وهذا أيضاً تفسير ابن عبَّاس ☻ ، وصله ابن أبي حاتم من الوجه المذكور قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:19] أرسلهما من مرجت الدَّابة إذا أرسلتها، والمعنى: أرسل البحر الملح والبحر العذب {يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19]: يتجاوران ويتماس سطوحهما، قيل: كدجلةٍ تدخل البحر فتشقُّه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيَّر طعمها، أو بحري فارس والرُّوم يلتقيان في المحيط؛ لأنَّهما خليجان يتشعَّبان منه {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجزٌ من قدرة الله أو من الأرض {لَا يَبْغِيَانِ} لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصيَّة أو لا يتجاوزان حدَّيهما بإغراق ما بينهما.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَلْفَافاً}: مُلْتَفَّةً. وَالْغُلْبُ: الْمُلْتَفَّةُ) أشار بهذا إلى ما روي عن مجاهدٍ في تفسير قوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:16] أي: ملتفَّة، وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح قال: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} قال: ملتفَّة؛ أي: ملتفة بعضها على بعضٍ، وألفاف: جمع لف، وقيل: جمع لفيف. وعن الكسائي: أنَّه جمع الجمع، قيل: إنَّه جمع لُف، ولُفّ جمع لَفَّاء، كخَضْراء وخُضر وأَخْضار.
          وقال الطَّبري: واختلف أهل اللُّغة في واحد الألفاف، فقال بعض نحاة البصرة: لُف، وقال بعض نحاة الكوفة: لُف ولفيف، وعن الطَّبري: اللَّف: جمع لفيفة وهي الغليظة، وليس الالتفاف / من الغلظ في شيءٍ إلَّا أن يُراد أنَّه غلظ بالالتفاف.
          وقوله: والغُلب: الملتفَّة، إشارة إلى ما في قوله تعالى: {وَحَدَائِقَ غُلْباً} [عبس:30]. أخرجه عبد بن حميد من طريق ابنِ أَبي نَجيح أيضاً عن مجاهد قال: {وَحَدَائِقَ غُلْباً} أي: ملتفة. وروى ابن أبي حاتم من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عبَّاس ☻ : الحدائق: ما التفَّ، والغُلْبُ: ما غَلُظ، ومن طريق عكرمة عنه: الغُلْب: شجر بالجبل لا يحمل يُسْتظلُّ به. وقيل: هي جمع غَلباء، وهي الغليظة الطَّويلة من الشَّجر وصف به الحدائق؛ لتكاثفها وكثرة أشجارها، أو لأنَّها ذات أشجار غلاظ.
          ({فِرَاشاً}: مِهَاداً، كَقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}) أشار بهذا إلى ما في قوله وهو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:22]، وفسَّره بقوله: مهاداً، وبه فسَّر قتادة والرَّبيع بن أنسٍ وصله الطَّبري عنهما. وقوله: كقوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}؛ أي: كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة:36] ؛ أي: موضع قرارٍ، وهو بمعنى المهاد.
          ({نَكِداً}: قَلِيلاً) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف:58] أي: لا يخرج إلَّا نكداً قليلاً عديم النَّفع، ونصب {نَكِداً} على الحال. وتقدير الكلام: والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلَّا نكداً فحُذِفَ المضاف وأُقِيْمَ المضاف إليه مقامه، فصار مرفوعاً مستتراً، وصله الطَّبري من طريق السُّدي قال: {لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} قال: النَّكد: الشَّيء القليل الذي لا ينفع، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ ، قال: هذا مثلٌ ضُرِبَ للكافر كالبلد السَّبْخة المالحة التي لا تخرج منها البركة.