نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صفة النار وأنها مخلوقة

          ░10▒ (باب صِفَةِ النَّارِ) يعني: جهنَّم (وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ) موجودة الآن كما أنَّ الجنَّة كذلك، وفيه ردٌّ على المعتزلة ({غَسَّاقاً} [النبأ:25] يُقَالُ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ وَيَغْسِقُ الْجُرْحُ، وَكَأَنَّ الْغَسَاقَ وَالْغَسْقَ وَاحِدٌ) أشار بهذا إلى تفسير قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا} أي: في جهنَّم {بَرْداً} يمنع من حرِّها، ويروِّحهم وينفِّس عنهم حرَّ النَّار، أو النَّوم على لغة هذيل، ومنه قولهم: منع البردُ البردَ؛ أي: النَّوم {وَلَا شَرَاباً} يشربونه تلذذاً {إِلَّا حَمِيماً} أي: ماء حاراً قد انتهى حرَّه {وَغَسَّاقاً} أي: ما يغسق ويسيل من صديدهم. وقيل: الزَّمهرير، وهو مستثنى من البرد، إلا أنَّه أُخِّر ليَتَوَافقُ رؤوسُ الآي.
          وقوله: ((غسقت عينُه ويغْسِقُ الجُرْحُ)) مأخوذ من كلام أبي عبيدة، فإنَّه قال في قوله تعالى: {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:25] الحميم: الماءُ الحار، والغسَّاق: ما همى وسالَ، يقال: غسقت من العين ومن الجرح، ويقال: غسقتْ عينه تغسق؛ أي: تسيل.
          وقال الجوهريُّ: غسقتْ عينُه: إذا أظلمت، وغسقَ الجرح: إذا سال منه ما اصفرَّ، ويقال: الغسَّاق: الماء البارد المنتن يُخفَّف ويشدَّد. وقيل: الغسَّاق: البارد الذي يحرق ببردهِ كما تحرق النَّار بِحَرِّها. وروي ذلك عن ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وأبي العالية، والمراد في الآية: ما سال من أهل النَّار من الصَّديد، رواه الطَّبري من قول قتادة، ومن قول إبراهيم وعطيَّة بن سعد وغيرهم، وقيل: من دموعهم، أخرجه أيضاً من قول عكرمة وغيره.
          وقال ابنُ دريد: هو صديدهم؛ تصهرهم النَّار، فيُجْمَعُ صديدُهم في حياض، فيُسْقَونه. وقال ابنُ فارس: الغسَّاق: ما يقطر من جلود أهل النَّار. وقال أبو عبيد الهروي: من قرأه بالتشديد أراد السَّائل، ومن قرأه بالتخفيف أراد البارد، وقيل: الغسَّاق: النتن.
          وعند التِّرمذي والحاكم عن أبي سعيد ☺ مرفوعاً: ((لو أنَّ دلواً من غساق يُهْراق إلى الدُّنيا لأنتن أهل الدُّنيا)). وأخرج الطَّبري من حديث عبد الله بن عَمرو ☻ موقوفاً: الغسَّاق: القيح الغليظ؛ لو أنَّ قطرة منه تُهْراق بالمغرب؛ لأنتن أهل المشرق.
          وقوله: ((كأن الغَسَاقَ والغَسَقَ / واحدٌ)) كذا في رواية الأكثرين: الغَسَق، بفتحتين، وفي رواية أبي ذرٍّ: <الغسيق> على وزن فعيل. وقد تردَّد البخاري في كون الغَسَاق والغَسَق واحداً، أو ليس بواحد، فإنَّ الغَسَاق بمعنى ما ذكره، والغسق: الظُّلمة، يقال: غَسَق يغسقُ غُسوقاً فهو غاسق: إذا أظلم، وأغسق مثله.
          قال الطَّبري في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] الغاسق: اللَّيل إذا لبس الأشياء وغطَّاها، وإنَّما أريد بذلك هجومه على الأشياء هجوم السَّيل، وكأنَّ المراد بالآية: السَّائل من الصَّديد، الجامع بين شدَّة البرد وشدَّة النتن، وبهذا تجتمع الأقوال، والله أعلم بحقيقة الحال.
          ({غِسْلِينَ}: كُلُّ شَيْءٍ غَسَلْتَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَهُوَ غِسْلِينَ، فِعْلِينَ مِنَ الْغَسْلِ مِنَ الْجُرْحِ وَالدَّبَرِ) أشار به إلى قوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36]، وقد فسَّره بقوله: كل شيء إلى آخره، وهكذا قال أبو عبيدة في ((المجاز)). وقد روى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: الغسلين صديد أهل النَّار.
          وقوله: فِعْلين؛ أي: وزن غِسْلِين فِعْلين، والنون والياء فيه زائدتان. وقوله: والدَّبَر، بفتح الموحدة: هو ممَّا يصيب الإبل من الجراحات. فإن قيل: بَيْنَ قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، وبَيْنَ هذه الآية يتوهَّم المنافاة بحسب الظَّاهر، فكيف يُجْمَعُ بينهما؟
          فالجواب: أنَّ الضَّريع من الغسلين هكذا قيل، وفيه: أنَّه يردُّه ما سيأتي في التَّفسير أنَّ الضَّريع نبات، وهو يَبِيسُ الشبرق، وهو شوك ترعاه الإبلُ ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته، فإنَّه سمٌّ قاتل. وقيل: شجرة ناريَّة تشبه الضَّريع، ويقال: لعله طعام طائفة من أهل النَّار، والغِسْلين وكذا الزَّقوم: طعام غيرهم منهم بحسب استحقاقهم، فبعضُهم يجازون بهذا، وبعضُهم بذلك، أو المراد طعامهم ممَّا تتحاماه الإبلُ وتعافُه؛ لضرِّه وعدم نفعهِ، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]: حَطَبُ، بِالْحَبَشِيَّةِ) وصله ابنُ أبي حاتم من طريق عبد الملك بن أبجر: سمعت / عكرمة بهذا. وأخرجه ابن أبي عاصم، عن أبي سعيد الأَشج: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر: سمعت عكرمة. وروى الطَّبري عن مجاهد مثله، لكن لم يقل: بالحبشة.
          وقال ابن عرفة: إن كان أراد بها أنها حبشيَّة الأصل سمِعَتْها العربُ، فتكلَّمت بها، فصارت حينئذٍ عربيَّةً، وإلَّا فليس في القرآن غير العربيَّة.
          وقال الخليل: {حَصَبُ} ما هيأ للوقود من الحطبِ، فإن لم يهيَّأ لذلك فليس بحَصَب. وروى الفرَّاء عن عليٍّ وعائشة ☻ : أنَّهما قرآها بالطاء. وروى الطَّبري عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّه قرأها بالضاد المعجمة قال: وكأنَّه أراد أنَّهم الذين تُسْجَر بهم النَّار؛ لأن كلَّ شيءٍ هيِّجت به النَّار فهو حصبٌ لها.
          وقد أشار البخاريُّ بذلك إلى تفسير قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98].
          (وَقَالَ غَيْرُهُ: {حَاصِباً}: الرِّيحُ الْعَاصِفُ) أي: قال غير عكرمة في تفسير قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:17]، أو في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} [القمر:34] هو الرِّيح العاصف الشَّديد التي تحصب وتثير الحصباء، وكذا فسَّره أبو عبيدة.
          (وَالْحَاصِبُ: مَا تَرْمِي بِهِ الرِّيحُ، وَمِنْهُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ} مَا يُرْمَى بِهِ فِي جَهَنَّمَ هُمْ حَصَبُهَا) أي: أهل النَّار حصب جهنَّم (وَيُقَالُ: حَصَبَ فِي الأَرْضِ ذَهَبَ، وَالْحَصَبُ مُشْتَقٌّ) أي: مأخوذ (مِنْ حَصْبَاءِ الْحِجَارَةِ) وهي الحصى. قال الجوهريُّ: الحصباءُ: الحَصَى، وحصبتُ الرَّجل أحصِبه، بالكسر؛ أي: رميتُه بالحجارة. وقد روى الطَّبري عن ابن جُريج في قوله تعالى: {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:17] قال: مطر الحجارة.
          ({صَدِيدٌ}: قَيْحٌ وَدَمٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16]، وفسَّره بالقيح والدَّم، وكذا فسَّره أبو عبيدة ({خَبَتْ}: طَفِئَتْ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97]، وفسَّره بقوله: طَفِئت، بفتح الطاء / وكسر الفاء، يقال: طَفِئتِ النَّارُ تَطْفَأ طفوئاً، وهو من باب عَلِم يَعْلَم من المهموز، وانطفأتْ، وأنا أطفأْتُها.
          وقال أبو عبيدة: يقولون: للنار إذى سَكَنَ لَهبُها وعلا الجمرَ رمادٌ: خَبَتْ، فإن طفئ معظمُ الجَمْر قالوا: خَمَدت، وإن كان طَفِئَ كُلُّه قالوا: هَمَدَتْ، ولا شكَّ أنَّ نار جهنَّم لا تطفأ. وأخرج الطَّبري من طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ} [الإسراء:97] قال: طفئت.
          ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : ((سكنت))، ومثله قال أبو عبيدة ورجَّحه.
          (تُورُونَ: تَسْتَخْرِجُونَ، أَوْرَيْتُ: أَوْقَدْتُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الواقعة:71]، وفسَّرها بقوله: تستخرجون من أوريت، وأكثر ما يقال: وَرَيْتُ من وَرَى الزِّندُ يَرِيْ بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل، وَرْياً: إذا خرجت نارُه. وفيه لغة أخرى: ورِي يرِي بالكسر فيهما أوريتُه أنا، وكذلك وَرَيته تَوْرِية، وأصل تورون: توريون فأعلَّ فصار: تورون على وزن تفعون.
          ({لِلْمُقْوِينَ}: لِلْمُسَافِرِينَ، وَالْقِيُّ: الْقَفْرُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73]، وفسَّر المقوين بقوله: للمسافرين، واشتقاقه من أقوى الرَّجل: إذا نزل المنزل القواء، بالمد والقصر، وهو القفر، ومنزلٌ قواء؛ أي: موضعٌ لا أنيسَ فيه ولا أحد.
          وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ : {لِلْمُقْوِينَ} المسافرين. ومن طريق الضَّحَّاك وقتادة مثله. ومن طريق مجاهد قال: للمقوين؛ أي: المستمتعين المسافر والحاضر. وقال الفرَّاء: قوله: {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ}؛ أي: منفعة للمسافرين إذا نزلوا بالأرض، ويقال: المُقْوي: مَن لا زاد له، وقيل: المُقْوى: الذي له مال. وقيل: المُقْوى: الذي أصحابه وإبله أقوياء، وقيل: هو مَن معه دابَّة.
          والقِيُّ، بكسر القاف وتشديد الياء، وفسَّره بقوله: القَفْر، بفتح القاف وسكون الفاء وفي آخره راء، وهي مفازةٌ لا نبات فيها ولا ماء، ويُجْمَعُ على قِفَار، / ورجَّح البخاري هذا.
          وقال القاضي في ((تفسيره)): {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} أي: جعلنا نار الزِّناد {تَذْكِرَةً} [الواقعة:73] تبصرةً في أمر البعث، كما مرَّ في سورة يس يريد قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} [يس:80]، أو في الظَّلام، أو تذكيراً، أو أنموذجاً لنار جهنَّم.
          {وَمَتَاعاً} ومنفعة {لِلْمُقْوِينَ} الذين ينزلون القواء وهي القَفْر، أو للذين خلتْ بطونُهم، أو مزاودهم من الطَّعام، من أَقْوَتِ الدَّارُ: إذا خلتْ من ساكنيها.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {صِرَاطُ الْجَحِيمِ} سَوَاءُ الْجَحِيمِ وَوَسَطُ الْجَحِيمِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23]. وروى الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] قال: في وسط الجحيم. ومن طريق قتادة والحسن مثله.
          (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ يُخْلَطُ طَعَامُهُمْ وَيُسَاطُ بِالْحَمِيمِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67] وفسَّره بقوله: يخلط...إلى آخره، روى الطَّبري من طريق السُّدِّي قال: في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:67] الشوب: الخلط. وقال أبو عبيدة: تقول العرب: كلُّ شيءٍ خلطتَه بغيره فهو شوب. وقوله: يُسَاطُ على البناء للمفعول؛ أي: يُخْلَط، ومنه: المِسْواط، وهو الخشبة التي يجول بها ما فيه التَّخليط، وهو بالسين المهملة.
          ({زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}: صَوْتٌ شَدِيدٌ وَصَوْتٌ ضَعِيفٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، وفسَّر الزَّفير بالصَّوت الشَّديد، والشَّهيق: بالصَّوت الضَّعيف. وهكذا فسَّره ابن عبَّاس ☻ أخرجه الطَّبري وابن أبي حاتم من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ .
          ومن طريق أبي العالية قال: الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصَّدر. ومن طريق قتادة: هو كصوت الحمار، أوَّله زفير وآخره شهيق. وقال الدَّاودي: الشَّهيق: هو الذي يبقى بعد الصَّوت الشَّديد من الحمار.
          (وِرْداً: عِطَاشاً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:86 / وفسَّر الوِرْد: بالعِطَاش، وكذا روي عن ابن عبَّاس ☻ . وروي عن مجاهد: ورداً: منقطعة أعناقهم من الظَّمأ.
          وقال أهل اللُّغة: الوِرْد: مصدر وَرَد، والتَّقدير: عندهم ذوي ورد. ويحكى أنَّه يقال للواردين الماء: ورد، ويقال: وَرَد بمعنى وراد، كما يقال: زور بمعنى زوار. قيل: وهذا ينافي العطش، لكن لا يلزم من الورود على الماء الوصول إلى تناوله، وسيأتي في حديث الشَّفاعة [خ¦81/53-9780]: ((أنَّهم يشكون العطش فترفعُ لهم جهنَّمُ سرابَ ماءٍ، فيقال: ألا تردُون فيردُونَها فيتساقطون فيها)). والآية في أواخر سورة مريم قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} أي: نجمعهم {إِلَى الرَّحْمَنِ} أي: إلى ربِّهم الذي غمرهم برحمته {وَفْداً} [مريم:85] وافدين عليه، كما يَفِدُ الوفّادُ على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} كما تساق البهائم {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} أي: عطاشاً، فإنَّ من يرد الماء لا يرده إلَّا لعطش، أو كالدَّواب التي ترد الماء.
          ({غَيّاً}: خُسْرَاناً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59]، وفسَّر الغي بالخسران، أخرجه ابن أبي حاتم، وعن ابن مسعود ☺: ((الغيُّ: وادٍ في جهنَّم بعيد القعر خبيث الطَّعم)). أخرجه ابنُ أبي حاتم أيضاً من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود ☺. وقيل: هو وادٍ في جهنَّم تستعيذُ منه أوديتها.
          والآية في سورة مريم أيضاً: قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [مريم:59] أي: من بعد الذين أنعمَ الله عليهم من أنبياء الله وأوليائه؛ أي: عقبهم وجاء بعدهم {خَلَفَ} عقب سوء، يقال: خلَف صدق، بالفتح، وخلْف سوء، بالسكون {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} تركوها أو أخَّروها عن وقتها {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] كشرب الخمر، واستحلالِ نكاح الأخت من الأب، والانهماك في المعاصي.
          وعن عليٍّ ☺: واتَّبعوا الشَّهوات: مَنْ بَنَى الشَّديدَ، ورَكِبَ المنظورَ، ولَبِسَ المَشهورَ. وأراد ☺ من قوله: من بنى الشَّديد: مَن بَنَى البناءَ المرتفعَ المتين. ومن قوله: ورَكِبَ المنظور: مَن ركب الفرسَ والبغلَ لا للجهاد، بل لأجل ما ينظر إليه للافتخار والخيلاء، ومن قوله: ولَبِسَ المشهورَ / اللِّباس الفاخر الذي يُنْظَرُ إليه.
          {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}: أي: خسراناً وهلاكاً وضلالاً عن طريق الجنَّة، وقد فسِّر بالشَّر أيضاً، كما في قول الشَّاعر:
فَمَنْ يَلقَ خَيْراً يَحمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ                     ومَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الغَيِّ لَائِماً
          أو المعنى: فسوف يلقون جزاء غي كقوله تعالى: {يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُسْجَرُونَ} تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72]، وفسَّره بقوله: توقد بهم النَّار كأنَّهم يصيرون وقوداً للنَّار، كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية الأكثرين: <توقد لهم> وهو واضحٌ، وكذا أخرجه عبدُ بن حميد من طريق ابنِ أبي نَجيح، عن مجاهد.
          ({وَنُحَاسٌ} الصُّفْرُ، يُصَبُّ عَلَى رُؤُوسِهِمْ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن:35]، وفسَّر النُّحاس بالصُّفر يُصَبُّ على رؤوس أهل النَّار من الكفَّار.
          وأخرج عبدُ بن حُميد من طريق منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} قال: قطعة من نار حمراء ونحاس، قال: يذاب الصُّفْر، فيُصَبُّ على رؤوسهم.
          وقال العينيُّ: الصُّفر، بالضم: النُّحاس الجيد الذي يعمل منه الآنية، وقيل: النُّحاس: الدُّخان. قال الأعشى:
يُضِيءُ كَضَوءِ سِرَاجِ السَّليطِ                     لَم يَجعلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاساً
          (يُقَالُ: {ذُوقُوا} بَاشِرُوا وَجَرِّبُوا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَوْقِ الْفَمِ) أشار بهذا إلى ما في قوله تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]. وفسَّره بقوله: باشروا إلى آخره، وغرضه: أنَّ الذَّوق هنا بمعنى المباشرة والتَّجربة لا بمعنى ذوق الفم. قيل: وهذا من المجاز، يستعمل الذَّوق، وهو ممَّا يتعلَّق بالأجسام، في المعاني كما في قوله تعالى: {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن:5].
          وقال الحافظ العسقلاني: لم أر هذا لغير المصنف، وهو كما قيل، والذَّوق يطلق ويراد به حقيقته، وهو ذوق الفم، ويطلقُ ويراد به الذَّوق المعنوي، وهو الإدراكُ، وهو المراد في قوله تعالى: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} [الأنفال:14] / ، وكذلك في قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان:56] قال: وبلغني عن بعض علماء العصر أنَّه فسَّره هنا بمعنى التخيُّل، وجعل الاستثناء متَّصلاً، وهو دقيق.
          وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً، والطَّبري من حديث عبد الله بن عَمرو موقوفاً: لم ينزل على أهل النَّار آية أشدُّ من هذه الآية: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30].
          ({مَارِجٌ} خَالِصٌ مِنَ النَّارِ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، وفسَّره بقوله: خالص من النَّار. وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} قال: من خالص النَّار.
          ومن طريق الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((خُلِقَتِ الجنُّ من مارج، وهو لسان النَّار الذي يكون في طرفها إذا التهب)). وقال الفرَّاء: المارج: نار دون الحجاب، ويُرَى جو السَّماء منها، ومنها هذه الصَّواعق.
          (مَرَجَ الأَمِيرُ رَعِيَّتَهُ إِذَا خَلاَّهُمْ يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني: تركهم حتَّى ظلمَ بعضُهم بعضاً ({مَرِيجٍ} مُلْتَبِسٍ) أشار به إلى قوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]، وفسَّره بقوله: ملتبس؛ أي: مختلطٍ. وفي رواية الكُشْمِيْهني: <أمر منتشر>، وهو تصحيفٌ، كذا قال الحافظُ العسقلاني.
          وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قال: مختلف. وروى الطَّبري عن ابن عبَّاس ☻ : {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قال: مختلف. ومن طريق سعيد بن جبير ومجاهد قال: ملتبس. ومن طريق قتادة قال: من ترك الحقَّ مَرج عليه رأيه، والتبسَ عليه دينه، ومنه قولهم:
          (مَرِجَ أَمْرُ النَّاسِ: اخْتَلَطَ) وهو بكسر الراء، وأما مرَج، بالفتح، فمعناه: ترك وخلى، ومنه قوله تعالى: ({مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ}) [الرحمن:19-20] أي: خلاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر.
          وفي ((تفسير النَّسفي)): يعني: أرسل البحرين العذب والملح مُتجاورين {يَلْتَقِيَانِ} لا فصلَ بين المائين في مرأى العين {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجزٌ وحائل من قدرة الله تعالى وحكمته {لَا يَبْغِيَانِ} لا يتجاوزان حدَّيهما، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة، ولا يختلطان ولا يتغيَّران. وقال قتادة: لا يطغيان على النَّاس بالغرق. ومنه قولهم أيضاً: (مَرَجْتَ دَابَّتَكَ: تَرَكْتَهَا) قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] / هو كقولك: مرجت دابتك: إذا نزلت عنها وتركتها.
          وفي ((الصِّحاح)): مرجت الدَّابة أمرُجها، بالضم، مرجاً: إذا أرسلتها ترعى. وقال الفرَّاء: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أرسلهما، ثمَّ يلتقيان بعد. وروى الطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((المراد بالبحرين هنا: بحرُ السَّماء وبحرُ الأرض يلتقيان كلَّ عام)). وكذا روي عن مجاهد والضَّحَّاك، ومن طريق سعيد بن جبير وابن أبزى مثله.
          ومن طريق الحسن: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} يعني: بحر الرُّوم وبحر الهند. ومن طريق قتادة، وكذا عن الحسن أيضاً: بحر فارس والرُّوم بينهما برزخ، وهو الجزائر.
          قال الطَّبري: وهو الأولى؛ لأنه سبحانه قال بعد ذلك: يخرج منهما اللُّؤلؤ والمرجان، وإنَّما يخرج اللؤلؤ من أصداف بَحْرِ الأرض عن قَطْرِ السَّماء.
          قال الحافظُ العسقلاني: وفي هذا دَفْعٌ لمن جزم بأنَّ المراد بهما البحر الحلو والبحر الملح، وجعل قوله: {مِنْهُمَا} [الرحمن:22] من مجاز التَّغليب، والله تعالى أعلم.
          تنبيه: واعلم أنَّ النَّسفي لم يرو هذه اللُّغات، ولم يوجد في نسختهِ شيءٌ من ذلك، وأمثال هذه ممَّا سمعها الفِرَبري عن البخاري عند سماع الكتاب، فألحقها هو به، والأولى بوضع هذا الجامع عدمها لا وجودها، إذ موضوعه رسول الله صلعم من جهة أقواله وأفعاله وأحواله، فينبغي أن لا يتجاوز البحث فيه عن ذلك.