نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا

          3276- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أنَّه قال: (أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) قال: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: / مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) أي: عن الاسترسال معه في ذلك بإثباتِ البراهين الحقَّانية القاطعة على أن لا خالق له بإبطال التَّسلسل ونحوه، بل يلجأُ إلى الله في دفعه، ويعلم أنَّه يريدُ إفساد دِينه بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهدَ في دفعها بالاشتغالِ بغيرها.
          وقال الطيبيُّ: ((لينته)) أي: ليترك التفكُّر في هذا الخاطر، وليستعذْ بالله من وسوسة الشَّيطان، فإن لم يزل التفكُّر بالاستعاذة فليقمْ وليشتغل بأمرٍ آخر.
          وإنَّما أمره بذلك، ولم يأمره بالتأمُّل والاحتجاج؛ لأنَّ العِلْمَ باستغناء الله تعالى عن المُوْجِد أمرٌ ضروريٌّ لا يَقْبَلُ المناظرة له وعليه، ولأنَّ الاسترسالَ في التفكُّر لا يزيد المرءَ إلَّا حيرة.
          وذلك لأنَّ السَّبب في مثله احتباس المرء في عالم الحسِّ، وما دام هو كذلك لا يزيد فكره إلَّا زيغاً عن الحقِّ، ومن كان هذا حاله، فلا علاج له إلَّا اللجاء إلى الله تعالى، والاعتصام بحوله وقوَّته.
          وقال الخطابيُّ: وجه هذا الحديث: أنَّ الشَّيطان إذا وسوسَ بذلك فاستعاذ الشَّخص بالله تعالى منه وكفَّ عن مطاوعته ومطاولتهِ في ذلك اندفع. قال: وهذا بخلافِ ما لو تعرَّض أحدٌ من البشرِ بذلك، فإنَّه يمكن قطعه بالحجَّة والبرهان. قال: والفرق بينهما: أنَّ الآدميَّ يقعُ منه الكلام بالسُّؤال والجواب، والحال منه محصور، فإذا راعى الطَّريقة وأضاءت الحجَّة انقطعَ، وأمَّا الشَّيطان فليس لوسوستهِ انتهاء، بل كلَّما أُلْزِمَ حجَّةً زاغَ إلى غيرها إلى أن يُفْضِيَ بالمرء إلى الحيرة، نعوذُ بالله من ذلك.
          قال الخطابيُّ: على أنَّ قوله: من خلق ربك، كلامٌ متهافتٌ ينقض آخره أوَّله؛ لأنَّ الخالق يستحيلُ أن يكون مخلوقاً، ثمَّ لو كان السُّؤال متَّجهاً لاستلزم التَّسلسل، وهو محالٌ، وقد أثبت العقل أنَّ المحدَثات مفتقرةٌ إلى مُحْدِثٍ، فلو كان هو مفتقراً إلى محدِث؛ لكان من المُحْدَثَات. انتهى.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والذي نحا إليه من التَّفرقة بين وسوسة الشَّيطان، ومخاطبةِ البشر فيه نظرٌ؛ لأنَّه ثبتَ في مسلم من طريق هشامِ بن عروة، عن أبيه / في هذا الحديث: ((لا يزال النَّاس يتساءلون حتَّى يقولون: هذا خَلَق الله فمن خَلق اللهَ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنتُ بالله)) فسوَّى في الكفِّ عن الخوض في ذلك بكلِّ سائلٍ عن ذلك من بشرٍ وغيره.
          وفي رواية أبي داود: ((فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحدٌ الله الصَّمد، الآية، ثمَّ ليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذْ)) أي: ليقلْ: أعوذُ بالله من الشَّيطان الرجيم؛ أي: من الشُّبُهات الواهية الشَّيطانية. وفي روايةٍ لمسلم عن أبي هريرة ☺ قال: سألني عنها اثنان، هذا، وكان السُّؤال عن ذلك لمَّا كان واهياً لم يستحق جواباً، والكفُّ عن ذلك نظير الكفِّ عن الخوض في الذَّات والصِّفات.
          وقال المازريُّ: الخواطرُ على قسمين: فالَّتي لا تستقرُّ، ولا تجلبها شبهة هي التي تُدْفَعُ بالإعراض عنها، وعلى هذا يُنَزَّلُ الحديث، وعلى مثلها يَنْطَلِقُ اسمُ الوسوسة، وأمَّا الخواطر المستقرَّة النَّاشئة عن الشُّبهة؛ فهي لا تَنْدَفِعُ إلَّا بالنَّظر والاستدلال.
          وفي الحديث: إشارةٌ إلى ذمِّ كثرة السُّؤال عمَّا لا يعني المرء، وعمَّا هو مستغنٍ عنه.
          ومطابقةُ الحديث للترجمة ظاهرة، وقد أخرجهُ مسلمٌ في ((الإيمان))، وأبو داود في ((السنة))، والنَّسائيُّ في ((اليوم والليلة)).