نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صفة إبليس وجنوده

          ░11▒ (بابُ) بيان (صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ) اعلم أنَّ الكلام في صفته وحقيقة أمره على أنواع:
          الأوَّل: أنَّه هل هو مشتقٌّ أو لا؟ فقال جماعة: هو اسم أعجمي، ولهذا منع الصَّرف للعلميَّة والعجمة. وقال ابن الأنباري: لو كان عربيًّا لصُرِفَ كإكليل. وقال الطَّبري: إنَّما لم يُصْرَفْ وإن كان عربيًّا؛ لِقِلَّة نظيره في كلام العرب، فشبَّهوه بالأعجمي. وفيه نظر؛ لأن ذلك؛ أي: قلَّة النَّظير في كلامهم ليس من موانع الصَّرف على أنَّ له نظائر كإخريط وإصليت.
          وقال قوم: إنَّه اسم عربي مشتقٌّ من أبلس إذا يئس. قال الجوهري: أبلس من رحمة الله؛ أي: يئس، ومنه سمِّي إبليس، واستبعد كونه مشتقًّا أيضاً بأنَّه لو كان كذلك لكان إنَّما سمِّي إبليس بعد يأسه من رحمة الله بطرده ولعنه، وظاهر القرآن أنَّه كان يسمَّى بذلك قبل ذلك، كذا قيل، ولا دَلالة فيه على ذلك؛ لجواز أن يسمَّى بذلك باعتبار ما سيقع له.
          نعم، روى الطَّبري، وابن أبي الدُّنيا عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((كان اسم إبليس حيث كان عند الملائكة عزازيل، ثمَّ إبليس بعد))، وهذا يؤيِّد قول من ادَّعى أنَّه عربي. وعن ابن عبَّاس ☻ أيضاً: ((أنَّ اسمه الحارث))، وأمَّا كنيته فقيل: كانت كنيته أبا مرَّة، وقيل: أبو العمر، وقيل: أبو كردوس.
          النَّوع الثَّاني: في بيان خلقه.
          روى الطَّبراني من حديث حجَّاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة وشريك، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((إنَّ من الملائكة قبيلةٌ من الجن، وكان إبليس منها)). وعن ابن عبَّاس ☻ أيضاً: ((سمِّي قبيلة الجن؛ لأنهم خزَّان الجنَّة)).
          وعن ابن عبَّاس ☻ أيضاً قال: ((إبليس من حيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن، خلقوا من نار السَّموم، وخلقت الملائكة كلهم من النُّور، غير هذا الحي)). وعن الحسن البصري: أنَّه من الشَّياطين، ولم يكن من الملائكة قط، واحتجَّ بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50].
          وقال مقاتل: لا من الملائكة، ولا من الجِنِّ، بل هو خلقٌ منفرد من النَّار كما خُلِقَ آدمُ ◙ من الطِّين. وقال شهرُ بن حَوْشب: كان إبليس من الجنِّ الذين يعملون في الأرض الفساد، فأَسَره / بعضُ الملائكة، فذهب به إلى السَّماء، ويقال: كان نوع من الجنِّ سكَّان الأرض، وكان فيهم الملك والنبوَّة والدِّين والشَّريعة، فاستمرُّوا على ذلك مدَّة، ثمَّ طغوا وأفسدوا وجحدوا الربوبيَّة، وسفكوا الدِّماء، فأرسل الله إليهم جنداً من السَّماء، فقاتلوا معهم قتالاً شديداً، فطردوهم إلى جزائر البحر، وأَسَروا منهم خلقاً كثيراً، وكان فيمن أُسِرَ عَزازيل، وهو إذ ذاك صبيٌّ، ونشأ مع الملائكة، وكلَّمهم بكلامهم، وتعلَّم من علمهم، وأخذ يسوسهم، وطالت أيامه حتَّى صار رئيساً فيهم، حتَّى أراد الله خلق آدم ◙، واتَّفق له ما اتَّفق.
          وروى عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: إبليسُ أَصْلُ الجان والشَّياطين، وهو أبو الكل. وروى مجاهد عنه أنَّه قال: الجانُّ أبو الجن كلهم، كما أنَّ آدم ◙ أبو البشر.
          النَّوع الثَّالث: في حدِّه وصفته.
          أمَّا حدَّه: فما ذكره الماوردي في ((تفسيره)) هو شخصٌ روحاني خُلِقَ من نار السَّموم، وهو أبو الشَّياطين، وقد ركِّبت فيهم الشَّهوات، مشتقٌّ من الإبلاس، وهو اليأسُ من الخير.
          وأمَّا صفته: فما قاله الطَّبري: كان الله قد حسَّن خلقه وشرَّفه وكرَّمه، وملَّكه على سماء الدُّنيا والأرض، وجَعَلَه مع ذلك من خُزَّان الجنَّة، فاستكبر على الله، وادَّعى الربوبيَّة، ودعا من كان تحت يده إلى طاعته وعبادته، فمسخه الله شيطاناً رجيماً، وشوَّه خلقه، وسَلَبه ما كان خوَّله، ولعنه وطَرَدَه عن سماواته في العاجل، ثمَّ جَعَل مسكنه ومسكن شيعته وأتباعه في الآخرة نار جهنَّم. انتهى. ويقال: كان يقال له: طاوس الملائكة لحسنه، ثمَّ مسخه الله تعالى.
          وقال عبد الله بن أحمد، بإسناده، عن ابن عبَّاس ☻ قال: ((كان إبليسُ يأتي يحيى بن زكريَّا ♂ طمعاً أن يفتنَه، وعرف يحيى ◙ ذلك منه، وكان يأتيه في صور شتَّى فقال: أحب أن تأتيني في صورتك التي أنت فيها، فأتاه فيها، فإذا هو مشوَّه الخلق، كريه المنظر، جسده جسدُ خنزير، ووجهه وجه قرد، وعيناه مشقوقتان طولاً، وأسنانه كلها عظم واحد، وليس له لحية، / ويداه في منكبيه، وله يدان أخراوان في جانبه، وأصابعه خلقة واحدة، وعليه لباس المجوس واليهود والنَّصارى، وفي وسطه منطقة من جلود السِّباع فيها كيزان معلَّقة، وعليه جلاجل، وفي يده جَرَسٌ عظيم، وعلى رأسه بيضة من حديد معوجَّة كالخطَّاف (1)، فقال يحيى ◙: ويحك ما الذي شوَّه خلقتك؟ فقال: كنت طاوس الملائكة، فعصيت الله، فمسخني في أخسِّ صورة، وهي ما ترى، قال: فما هذه الكيزان؟ قال: شهوات بني آدم، قال: فما هذا الجرس؟ قال: صوت المعازف والنَّوح، قال: فما هذه الخطاطيف؟ قال: أخطف بها عقولهم، قال: فأين تسكن؟ قال: في صدورهم، وأَجْري في عروقهم، قال: فما الذي يعصمهم منك؟ قال: بغض الدُّنيا، وحبُّ الآخرة)).
          النَّوع الرَّابع: في أولاده وجنوده.
          روي عن مجاهد عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ((بلغنا أن لإبليس أولاداً كثيرين، واعتماده على خمسة منهم: ثبر والأعور ومسوط وداسم وزلنبور)).
          وقال مقاتل: لإبليس ألف ولد ينكحُ نفسه ويلد، ويبيضُ كل يوم ما أراد، ومن أولاده: المذهب وخنزب وهفاف ومرَّة والولهان والمتقاضي، وجعلَ كلَّ واحدٍ منهم على أَمْرٍ، ذكره العيني في ((تاريخه الكبير)).
          ومن ذرِّيته: الأقنص، وهامةُ بن الأقنص، وبلزون، وهو الموكَّل بالأسواق، وأمهم طُرطُبَّه. ويقال: بل هي حاضنتُهم، ذكره النقَّاش.
          قالوا: باضت ثلاثين بيضة، عشرة بالمشرق، وعشرة بالمغرب، وعشرة في وسط الأرض، وأنَّه خرج من كلِّ بيض جنس من الشَّياطين كالعفاريت والغيلان والجنان، وأسماء مختلفة كلهم عدو لبني آدم، أعاذنا الله من شرِّهم، وله جنود يرسلهم إلى إضلال بني آدم.
          وقد روى ابن حبَّان والحاكم والطَّبراني من حديث أبي موسى الأشعري ☺ مرفوعاً قال: ((إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده فيقول: من أضل مسلماً ألبسته التَّاج)) الحديث.
          وروى مسلم من حديث جابر ☺: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون النَّاس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)).
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُقْذَفُونَ} يُرْمَوْنَ / {دُحُوراً}: مَطْرُودِينَ {وَاصِبٌ} دَائِمٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:8-9] وفسَّر قوله: يقذفون بقوله: يُرْمَون، وقوله: دُحُوراً بقوله: مطرودين، كأنَّه جعل المصدر بمعنى المفعول جمعاً. وقد فسَّره عبد بن حميد من طريق ابن أبي نَجيح، عن مجاهد كذلك، وفسَّر قوله: {وَاصِبٌ} بقوله: دائم.
          وقال القاضي في تفسير هذه الآية: {وَيُقْذِفُونَ} ويرمون {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} من جوانب السَّماء إذا قصدوا صعوده.
          {دُحُوراً} علة؛ أي: للدُّحور، وهو الطَّرد، أو مصدر؛ لأنَّه والقذف مُتقاربان، أو حال بمعنى مدحورين، أو منزوع عنه الباء جمع دحر، وهو ما يطرد به {وَلَهُمْ عَذَابٌ}: أي: عذاب آخر {وَاصِبٌ} دائم، أو شديد، وهو عذاب الآخرة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : {مَدْحُوراً} مَطْرُوداً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:39]، وقد فسَّر قوله: [مدحوراً] بقوله: مطروداً. وقد وصل هذا التَّعليق الطَّبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه. والمَدْحور: مفعول من الدَّحر، وهو الدَّفع والإبعاد من قولك: دحرتُه أَدْحَره دَحْراً ودُحُوراً.
          وفي ((تفسير عبد بن حميد)) عن قتادة: دحوراً قذفاً في النَّار. وقوله: ملوماً معناه: تلوم نفسك، وإنَّما ذكره البخاري هنا استطراداً لذكره دحوراً قبله، وإن كان لا يتعلَّق بإبليس وجنوده (يُقَالُ: {مَرِيداً} مُتَمَرِّداً) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [النساء:117]، وفسَّر مريداً بقوله: مُتَمَرِّداً.
          وقال البيضاوي: {وَإِنْ يَدْعُونَ} وإن يعبدون بعبادتها؛ أي: بعبادة اللَّات والعزى ومناة ونحوها، وقد كان لكلِّ حيٍّ صنم يعبدونه ويسمُّونه أنثى بني فلان {إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً}: لأنه الذي أمرهم بعبادتها، وأغراهم عليها، وكان طاعته في ذلك عبادة له، والمارد والمَريد: الذي لا يعلق بخير. وأصل التَّركيب للملاسة، ومنه: صرح ممرَّد، وغلام أَمْرد، وشجرة مَرْداء للتي تناثر ورقها.
          (بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء:119] ؛ أي: ليقطعن، وكذا قال أبو عبيدة، وقد فسَّر بتَّكه بمعنى: قطَّعه.
          وقال قتادة: يعني: البحيرة، وهي أنَّ النَّاقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذنها، ولم ينتفعوا / بها، والتَّقدير: ولآمرنهم بتبتيك آذانها، وهذا من حكاية قول إبليس عليه اللَّعنة حيث قال تعالى حكاية عنه: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:118]: أي: نصيباً قدر لي وفرض، من قولهم: فَرَضَ له في العطاء.
          {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} عن الحقِّ {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} الأماني الباطلة كطول الحياة، وأن لا بعث، ولا عقاب {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ} يشقُّونها لتحريم ما أحلَّ الله تعالى، وهي عبارة عمَّا كانت العرب تفعل بالبحائر والسَّوائب، فإن أهل الجاهليَّة كانوا إذا نتجت النَّاقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أُذُنَها؛ أي: شقُّوها وخلوا سبيلها، فلا تُرْكَب، ولا تُحْلَب، وكان الرَّجل منهم يقول: إن شفيتُ من مرضي، أو قدمت من سَفري، فناقِتي سائبة، ويجعلها كالبحيرةِ في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشَّاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذَّكر، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره، ولا يمنعوه من ماء، ولا مرعى، وقالوا: قد حمى ظهره، وقد أبطلَ الله تعالى ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] بتحريم ذلك، ونسبته إليه.
          {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة:103]: أي: الحلال من الحرام، والمبيح من المحرِّم، أو الأمر من النَّهي، ولكنَّهم يقلِّدون كبارَهم، إذا عرفت ذلك فقوله: فليبتكنَّ آذان الأنعام عبارة عن ذلك، وإشارة إلى تحريم كلِّ ما أحل الله، ونقص كل ما خلق كاملاً بالفعل أو القوَّة.
          {وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] عن وجهه صورة، أو صفة، ويندرجُ فيه ما قيل من فَقْئ عين الحامي، وخصاءِ العبيد، والوَشْم والوَشْر (2)، واللَّوْط والسَحْق ونحو ذلك، وعبادة الشَّمس والقمر وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النَّفس كمالاً، ولا يوجب لها من الله زلفى، وعموم اللَّفظ يمنع الخِصَاء مطلقاً، لكن الفقهاء رخَّصوا في خِصَاء البهائم / للحاجة، والجمل الأربع حكاية عمَّا ذكره الشَّيطان نطقاً أو أتاه فعلاً.
          {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ} بإيثار ما يدعو إليه على أمر الله به، ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119] إذ ضيَّع رأس ماله وبدَّل مكانه من الجنَّة بمكانه من النَّار {يَعِدُهُمْ} ما لا ينجزهم {وَيُمَنِّيهِمْ} ما لا ينالون {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:120] وهو إظهار النَّفع فيما فيه الضَّرر، وهذا الوعد إمَّا بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً}[النساء:121] معدلاً ومهرباً، من حَاص يَحِيْصُ إذا عَدَل، و{عَنْهَا} حال منه، وليس صلة له؛ لأنه اسم مكان، وإن جعل مصدراً فلا يَعْمل أيضاً فيما قبله.
          ({وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء:64] اسْتَخِفَّ {بِخَيْلِكَ} الْفُرْسَانُ، وَالرَّجْلُ: الرَّجَّالَةُ، وَاحِدُهَا رَاجِلٌ، مِثْلُ: صَاحِبٍ وَصَحْبٍ وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء:64] وفسَّر قوله: استفزز بقوله: استخف، ويريد بالصَّوت: الغناء والمزامير، وفسَّر الخيل بالفرسان، وفسَّر الرَّجْل، بفتح الراء وسكون الجيم، بالرَّجَّالة بفتح الراء وتشديد الجيم. ثمَّ قال: واحد الرَّجل راجل، ومَثَّلَه بقوله: صاحب وصَحْب، وتاجِرٌ وتَجْر، فإن الصَّحْب جمع صاحب، والتَّجْر، بفتح المثناة الفوقية وسكون الجيم، جمع: تاجر، وما ذكره هو تفسير أبي عبيدة.
          وقال ابن عبَّاس ☻ : كلُّ خيلٍ سارت في معصية، وكلُّ رِجْلٍ مشت فيها، وكلُّ ما أُصِيبَ من حرام فهو للشَّيطان. وقال غيره: مشاركته في الأموال في البحيرة والسَّائبة وفي الأولاد بتسميته عبد العزَّى ونحو ذلك.
          وفي ((تفسير القاضي)): {وَاسْتَفْزِزْ} واستخفَّ {مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} أن تستفزَّه، والفز الخفيف {بِصَوْتِكَ} بدعائك إلى الفسادِ {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} وصِحْ عليهم، من الجلبة وهي الصِّياح {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} بأعوانك من راكب وراجل، / ويجوز أن يكون تمثيلاً؛ لتسلُّطه على من يغويه بمغْوَارٍ (3) صَوَّتَ على قَوْمٍ، فاستفزَّهم من أماكنهم، وأَجْلَبَ عليهم بجُنْدِه حتَّى استأصلهم. وقرأ حفص: {ورجِلك} بكسر الجيم، وقرئ: بالضم أيضاً، وهما لغتان كندِس وندُس، ومعناه وجمعك الرَّجُل(4) .
          {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ} بحملهم على كسبها من الحرام، والتصرُّف فيها على ما لا ينبغي {وَالْأَولَادِ} بالحث على التَّوصُّلِ إلى الولد بالسَّبب المحرم، والاشتراك فيه بتسميته عبد العزَّى، والتَّضليل على الأديان الزَّائغة، والحرف الذَّميمة، والأفعال القبيحة {وَعِدْهُمْ} المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتِّكال على كرامة الآباء، وتأخير التَّوبة لطول الأمل {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [الإسراء:64]اعتراض لبيان مواعيده.
          ({لأَحْتَنِكَنَّ} لأَسْتَأْصِلَنَّ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:62]، وفسَّر قوله: {لأحتنكنَّ} بقوله: لأستأصلنَّ من الاستئصال، قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} يقول: لأستميلنَّهم ولأستأصلنَّهم، يقال: احتنك فلان ما عند فلان: إذا أخرج جميع ما عنده.
          وفي ((تفسير القاضي)): {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62] الكاف لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب، وهذا مفعول أوَّل، والذي: صفته، والمفعول الثَّاني محذوفٌ؛ لدَلالة صلتهِ عليه، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ بأمري بالسُّجود له.
          {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} كلام مبتدأ، واللام موطئة للقسم، وجوابه: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:62] لأستأصلنهم بالإغواء إلا قليلاً لا أقدر أن أقاوم سكينتَهم من احتنَك الجرادُ الأرضَ: إذا جرَّد ما عليها أكلاً؛ مأخوذ من الحَنْك، وإنَّما علم أنَّ ذلك يتسهَّل له إما استنباطاً من قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] مع التَّقرير أو تفرُّساً من خَلْقِه ذا وَهَم وشهوةٍ وغَضَبٍ، والله تعالى أعلم.
          ({قَرِينٌ} شَيْطَانٌ) أشار به إلى ما في قوله تعالى: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وفسَّر القرين بالشَّيطان، / وفسَّره مجاهد كذلك. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] قال: شيطان. وقال غير مجاهد خلافه.
          وروى الطَّبري عن مجاهد والسُّدِّي في قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25] قال: شياطين. وفي ((تفسير القاضي)): {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:36] يتعامى ويعرض عنه؛ لفرط اشتغاله بالمحسوسات، وانهماكه في الشَّهوات {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] يوسوس له ويغويه دائماً.


[1] في هامش الأصل: الخطَّاف حديدة محناة ومخاليب السباع خطاطيف. منه.
[2] في هامش الأصل: الوشر أن تحدد المرأة أسنانها وترققها، وفي الحديث: ((لعن الله الواشرة والمؤتشرة)). منه.
[3] في هامش الأصل: مرد بسيار غارت. ((قانون الأدب)).
[4] في هامش الأصل: فيه إشارة إلى أن الرجل في قراءة الكسر والضم صفة الاسم مفرد اللفظ مجموع المعنى. منه.