نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم

          6896- قال البخاريُّ: (وَقَالَ لِي ابْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحدة وتشديد الشين المعجمة وبالراء، هو محمَّد بن بشَّار، المعروف ببندار (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيدٍ / القطَّان (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) بضم العين، هو: ابنُ عمر العمري (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ : أَنَّ غُلاَمًا) اسمه: أصيل، كما رواه البيهقي (قُتِلَ) بضم القاف على البناء للمفعول (غِيلَةً) بكسر الغين المعجمة وسكون التحتية بعدها لام مفتوحة؛ أي: سرًّا وغفلةً وخديعةً.
          (فَقَالَ عُمَرُ) ☺ (لَوِ اشْتَرَكَ فِيهَا) أي: في هذه الغِيْلَة، أو التَّأنيث على إرادة النَّفس، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَني: <فيه> أي: في قتله (أَهْلُ صَنْعَاءَ) بلدٌ باليمن معروفٌ (لَقَتَلْتُهُمْ) وهذا الأثر موصولٌ إلى عمر ☺ بأصحِّ إسنادٍ، وقد أخرجه ابنُ أبي شيبة عن عبد الله بن نمير، عن يحيى القطان من وجهٍ آخر عن نافع، ولفظه: «أنَّ عمر ☺ قتل سبعةً من أهل صنعاء برجلٍ قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه صنعاء لقتلتهم جميعًا».
          وقوله: ((تمالأ)) بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد اللام ومعناه: توافق. وهذا الأثر حجَّةُ الجمهورِ على أنَّ الجُمْعَ يُقْتَلُ بواحدٍ. وقال صاحب «التوضيح»: كأنَّ البخاري أرادَ بأثر عمر ☺ الرَّدَّ على محمَّد بن سيرين، قال في الرجل يقتله الرَّجلان: «يُقْتَل أحدُهما وتُؤخَذُ الدِّيَةُ من الآخر»، وقد مرَّ عن قريبٍ.
          (وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ) الصَّنعاني الأنباري، وثقه يحيى والعجلي والنَّسائي وابن حبَّان، روى له مسلمٌ والنَّسائي والتِّرمذي، واستشهد به البخاري (عَنْ أَبِيهِ) حكيم (إِنَّ أَرْبَعَةً) بكسر الهمزة وتشديد النون (قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ) ☺: (مِثْلَهُ) أي: مثل قوله: ((لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم))، وهذا مختصرٌ من الأثر الَّذي وصله ابن وهب، ومن طريقه قاسم بن أصبغ والطَّحاوي والبيهقي، قال ابنُ وهب: حدَّثني جرير بن حازم أنَّ المغيرةَ بن حكيم الصَّنعانيَّ حدَّثه عن أبيه: أنَّ امرأةً بصنعاء غابَ عنها زوجُها، وتركَ في حجرها ابنًا له من غيرها غلامًا يقال له: أَصِيْلٌ، فاتَّخذت المرأةُ بعد زوجِها خليلًا فقالت له: إنَّ هذا الغلامَ يفْضَحُنا فاقْتُلْه فَأَبَى، فامتنعتْ منه، فطاوَعَها فاجتمعَ على قَتْلِ الغُلامِ الرجلُ ورجلٌ آخر والمرأة وخادمها فقتلوه ثمَّ قطَّعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبَة _بفتح المهملة وسكون التحتية_ / بعدها موحدة مفتوحة: هي وعاءٌ من أدم، فطرحوه في رَكِيَّة، بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتية: هي البئر الَّتي لم تطو في ناحية القرية التي ليس فيها ماءٌ، فأُخِذَ خليْلُها فاعْتَرَفَ، ثمَّ اعْتَرَفَ الباقون، فكتب يعلى وهو يومئذٍ أميرُهم إلى عمر ☺ يقتلهم.
          وفي أثر عمر ☺ هذا تعقُّبٌ على ابن عبد البرِّ في قوله: لم يقل فيه أنَّه قتله غيلةً إلَّا مالك.
          (وَأَقَادَ) بالقاف (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ (وَابْنُ الزُّبَيْرِ) عبد الله ☻ (وَعَلِيٌّ) هو: ابنُ أبي طالبٍ ☺ (وَسُوَيْدُ) بضم السين وفتح الواو (ابْنُ مُقَرِّنٍ) بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة بعدها نون، المزني (مِنْ لَطْمَةٍ) وهي الضَّرب على الخَدِّ بالكفِّ.
          أمَّا أثر أبو بكر ☺: فوصله ابنُ أبي شيبة من طريق يحيى بن الحصين: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطم أبو بكر يومًا رجلًا لَطْمَةً، فقيل: ما رأينا كاليوم قط منعةً ولطمةً، فقال أبو بكر: إن هذا أتاني يستحملني فحملتُه، فإذا هو يمْنَعُهم، فحلفت أن أَحْمِلَه ثلاث مرَّات، ثمَّ قال له: اقتصَّ فعفا الرَّجل.
          وأمَّا أثر الزُّبير: فرواه ابن أبي شيبة ومسدد جميعًا عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن الزُّبير: «أنَّه أقاد من لطمةٍ».
          وأمَّا أثر عليٍّ ☺: فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ناجية أبي الحسن، عن أبيه: أنَّ عليًّا ☺ قال في رجلٍ لَطَمَ رجلًا قال للملطوم: «اقتصَّ منه».
          وأمَّا أثر سويد بن مقرن: فوصله ابن أبي شيبة من طريق الشَّعبي عنه.
          (وَأَقَادَ عُمَرُ) ☺ (مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ) بكسر الدال المهملة وتشديد الراء، آلةٌ يُضْرَبُ بها، أخرجه أبو الفرج الأصبهاني في «تاريخه» بسندٍ فيه ضَعْفٌ وانقطاعٌ.
          وأخرجه «الموطأ» عن عاصمٍ عن عبد الله منقطعًا، ووصله عبد الرَّزَّاق، عن مالك، عن عاصم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عمر ☺ في طريق مكَّة فقال تحتَ شجرةٍ، فناداه رجلٌ فضربه بالدِّرَّة فقال: عَجِلْتَ عليَّ، فأعطاه المِخْفَفَةَ، وقال: / اقتصَّ فأبى، فقال: لتفعلنَّ فقال: فإنِّي أغفرها.
          (وَأَقَادَ عَلِيٌّ) هو: ابنُ أبي طالبٍ ☺ (مِنْ ثَلاَثَةِ أَسْوَاطٍ) أخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمر، عن عبد الله بن معقِل، بكسر القاف، قال: كنت عند عليٍّ ☺ فجاءه رجلٌ فسارَّه فقال: يا قَنْبر اخرج فاجلده ثلاثة أسواط، ثمَّ جاء المجلود فقال: إنَّه زاد على ثلاثة أسواطٍ فقال: صَدَق، فقال: خذ السَّوط فاجلده ثلاثة أسواطٍ، ثمَّ قال: يا قَنْبر إذا جلدت فلا تتعدَّ الحدود.
          وقَنْبر: بفتح القاف والموحدة بينهما نون ساكنة آخره راء.
          (وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ) بفتح الشين المعجمة وفتح الراء بعدها تحتية ساكنة فمهملة، هو: ابنُ الحارث القاضي (مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ) بضم الخاء المعجمة والميم وبعد الواو معجمة، وهو الخدوش وزنًا ومعنى. وصله ابن سعد، وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النَّخعي قال: جاء رجلٌ إلى شريحٍ، فقال له: أقدني من جِلْوازك، فسَأله فقال: ازدحَموا عليك فضَرَبْتَه سَوطًا فأقاده منه.
          ومن طريق ابن سيرين قال: اختصمَ إليه؛ يعني: شريحًا، عبدٌ جَرَحَ آخر فقال: إن شاء اقتصَّ ولا حرج. وأخرج ابنُ أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عن شريح: أنَّه أقاد من لطمةٍ وخموشٍ.
          والخَماشة: ما ليس له أرشٌ معلوم من الجراحة. والجِلْوَاز: بكسر الجيم وسكون اللام وآخره زاي هو الشُّرطي، سمِّي بذلك؛ لأنَّ من شرطه حمل الجِلَاز، بكسر الجيم وباللام الخفيفة: وهو السَّير الَّذي يشدُّ في الوسط، وعادة الشُّرطي أن يربطَه في وسطه.
          قال ابن بطَّال: جاء عن عثمان وخالد بن الوليد ☻ نحو قول أبي بكرٍ ☺، وهو قول الشَّعبي وطائفةٍ من أهل الحديث.
          وقال اللَّيث وابن القاسم: يقادُ من الضَّرْبِ بالسَّوط وغيره إلَّا اللَّطمة على العين ففيها العقوبة خشيةً على العين.
          وروي هذا عن الحسن وقتادة، وهو قولُ الكوفيين والشَّافعي، والمشهور عن مالك وهو قول الأكثرين: لا قودَ في اللَّطمة إلَّا إن جَرَحَتْ ففيها الحكومة، والسَّبب فيه تعذُّر المماثلة؛ لافتراق لَطْمَتَي القوي والضَّعيف / فيجب التَّعزيز بما يليق باللَّاطم.
          وقال ابن القيِّم: بالغ بعض المتأخِّرين فنقل الإجماع على عدمِ القود في اللَّطمة والضَّرب، وإنَّما يجب التَّعزيز، وذهل في ذلك فإنَّ القول بجريان القود في ذلك؛ ثابتٌ عن الخلفاء الرَّاشدين، فهو أولى بأن يكون إجماعًا، وهو مقتضى إطلاق الكتاب والسُّنَّة انتهى.