نجاح القاري لصحيح البخاري

باب القسامة

          ░22▒ (بابُ الْقَسَامَةِ) بفتح القاف وتخفيف السين المهملة مصدر أَقْسَمَ قَسَمًا وقَسَاَمَةً، وفي بعض النسخ: <كتاب القسامة>. وقال الكِرماني: هي مشتقَّةٌ من القَسم على الدَّم وهو اليمين، أو من قَسمة اليمين. انتهى.
          يقال: أَقْسَمت: إذا حَلَفت، وقسَمت قسامةً؛ لأنَّ فيها اليمين. وقال الأزهريُّ: القَسَامة اسمٌ للأولياء الَّذي يحلفون على استحقاق دمِ المقتول. وقال ابن سيده: القسامة: الجماعة يقسمون على الشَّيء أو يشهدون به، ويمين القسامة منسوبةٌ إليهم، ثمَّ أطلقت على الأَيمان نفسِها، والصَّحيحُ أنَّها هي الأَيمان تُقْسَمُ على أولياء القتيل إذا ادَّعوا الدم أو على المدَّعى عليهم الدَّم، وخُصَّ القَسَمُ على الدَّم بلفظ القسامة.
          (وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ) بسكون الشين المعجمة وبالمثلثة، الكندي، قَدِمَ على النَّبيِّ صلعم في ستِّين راكبًا من كندة، وأسلم ثمَّ ارتد عن الإسلام بعد النَّبي صلعم ، ثمَّ راجع الإسلام في خلافة أبي بكرٍ ☺، ومات سنة أربعين بعد قتل عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ بأربعين يومًا، وصلى عليه الحسن بن عليٍّ ☻ .
          (قَالَ النَّبِيُّ صلعم : شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) برفع شاهدك خبر مبتدأ محذوف؛ أي: المثبت لدعواك شاهداك، أو يمينه عطف عليه، طرف من حديث تقدم موصولًا في كتاب الشهادات قبل رقم: [خ¦2668] [خ¦2669]، ثمَّ في كتاب الأيمان والنذور [خ¦6677]، ومضى الكلام فيه.
          قال الحافظ العسقلاني: أشار البخاري بذكره هنا إلى تَرْجِيحِ روايةِ سعيدِ بن عُبيد في حديث الباب أنَّ الَّذي يبدأ في يمين القسامة المدعى عليهم.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ الظَّاهر / أنَّ البخاريَّ ذهب إلى ترك القتل بالقسامة؛ لأنَّه صَدَّرَ هذا البابَ أولًا بحديث الأشعث بن قيس، والحكمُ فيه مقصورٌ على البيِّنة واليمين، ثمَّ ذَكَرَ عن ابنِ أبي مُلَيكة، وعمر بن عبد العزيز بالإرسال بغير إسنادٍ.
          وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرَّحيم بن سليمان، عن الحسن: أنَّ أبا بكر وعمر ☻ والجماعة الأُول لم يكونوا يقتلون بالقسامة. وروي عن إبراهيم بسنده: القَودُ بالقسامة جورٌ، وفي رواية أبي معشر: القسامة يُسْتَحقُّ فيها الدية، ولا يُقَاد فيها.
          (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة، بضم الميم، واسم أبي مُلَيكة: زهير، وهو جدُّ عبد الله، وأبوه عبيد الله، وقيل: عبد الرَّحمن، نُسِبَ إلى جدِّه، وكان قاضي ابنَ الزبير ☻ (لَمْ يُقِدْ) بضم التحتية وكسر القاف، من أقاد؛ أي: لم يقتص.
          (بِهَا) أي: بالقسامة (مُعَاوِيَةُ) أي: ابن أبي سفيان ☺؛ يعني: لم يحكم بالقَودِ في القَسامة، وقد وصله حمَّاد بن سلمة في «مصنفه»، ومن طريقه ابن المنذر، قال حمَّاد: عن ابن أبي مليكة: سألني عمر بن عبد العزيز عن القَسَامة فأخبرتُه أنَّ عبدَ الله بنَ الزُّبير أقاد بها، وأنَّ معاويةَ يعني: ابن أبي سفيان لم يقد بها. وهذا سندٌ صحيحٌ، وقد توقف ابن بطال في ثبوته فقال: قد صحَّ عن معاوية أنَّه أقاد بها، ذَكَرَ ذلك عنه أبو الزِّناد في احتجاجِه على أهل العراق.
          قال الحافظ العسقلاني: هو في صحيفة عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، ومن طريقه أخرجه البيهقي قال: حدَّثني خارجة بن زيد قال: قتل رجلٌ من الأنصار رجلًا من بني العَجْلان، ولم يكن على ذلك بيِّنةٌ ولا لَطْخٌ، فاجتمع رأي النَّاس على أن يحلف ولاةُ المقتول ثمَّ يُسَلَّم إليهم فيقتلوه، فرَكِبْتُ إلى معاويةَ في ذلك، فكَتَبَ إلى سعيد بن العاص: إنْ كان ما ذَكَرَه حقًّا فأفعلْ ما ذكروه، فدفعتُ الكتاب إلى سعيدٍ فأحْلَفَنَا خَمسين يمينًا ثمَّ أَسْلَمَه إلينا.
          ويمكن الجَمْعِ بأنَّ معاويةَ لم يُقدْ بها لمَّا وقعتْ له، وكان الحَكَمَ في ذلك، ولمَّا وقعتْ لغيره وَكَّلَ الأمرَ في ذلك إليه، ونُسبَ إليه أنَّه أقاد بها؛ لكونه أذن في ذلك، / ويحتمل أنَّ معاويةَ كان يرى القَود بها ثمَّ رجع عن ذلك أو بالعكس، وقد تمسَّك مالكٌ بقول خارجة المذكور فأطلق أنَّ القولَ بها إجماعٌ.
          (وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) ☼ (إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ) بفتح الهمزة وسكون الراء بعدها مهملة غير منصرف، وهو فَزَاريٌّ من أهل دمشق، وكان أميرًا على البصرة في سنة تسع وتسعين، وقَتَلَه معاوية بن يزيد بن المهلب في آخر سنة اثنتين ومائة.
          (وَكَانَ أَمَّرَهُ) أي: جعله عمر بن عبد العزيز أميرًا على البصرة (فِي قَتِيلٍ) أي: في أمر قتيل (وُجِدَ) بضم الواو على البناء للمفعول (عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ) جمع: سمان، وهم الَّذين يبيعون السَّمْن (إِنْ وَجَدَ) هُوَ إلى آخِرِه بيانٌ كتاب عمر بن عبد العزيز.
          (أَصْحَابُهُ) أي: أصحاب القتيل (بَيِّنَةً) يحكم بها (وَإِلاَّ) أي: وإن لم يجد أصحابُه بينةً (فَلاَ تَظْلِمِ النَّاسَ) بالحكم في ذلك بغير بيِّنةٍ (فَإِنَّ هَذَا لاَ يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي: فإنَّ هذه القضية من القضايا الَّتي لا يُحْكَمُ فيها إلى يوم القيامة؛ لأنَّ فيها الشَّهادة على الغائب، وشهادة من لا يصلح لها.
          وقد وصله سعيدُ بن منصور: حدَّثنا هُشيم: حدَّثنا حميد الطَّويل قال: كتب عديُّ بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في قتيلٍ وُجِدَ في سُوق البصرة، فكتب إليه عمر: إنَّ من القضايا ما لا يُقْضَى فيه إلى يوم القيامة وإنَّ هذه لمنهنَّ.
          وأخرج ابن المنذر من وجهٍ آخر عن حُميد قال: وُجِدَ قَتيلٌ بين قُشَيْرٍ وعَائِشٍ، فكتب فيه عديُّ بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز في القود بالقسامة، كما اختلف على معاوية، فذكر ابن بطَّال أنَّ في مصنف حمَّاد بن سلمة عن ابن أبي مُليكة: أنَّ عمر بن عبد العزيز أقاد بالقَسامة في إمرته على المدينة.
          قال الحافظُ العسقلاني: ويُجْمَعُ بأنَّه كان يرى بذلك لمَّا كان أميرًا على المدينة، ثمَّ رَجَعَ لما وليَ الخلافة، ولعلَّ سبب ذلك ما سيأتي في آخر الباب / من قصَّة أبي قلابة حيث احتجَّ على عدم القود بها فكأنَّه وافقه على ذلك.
          وأخرج ابن المنذر من طريق الزُّهري قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: إنِّي أريد أن أَدَعَ القَسامة يأتي رجلٌ من أرض كذا، وآخر من أرض كذا فيحلفون على ما لا يرون، فقلت: إنَّك إن تتركها يوشك أنَّ الرَّجل يُقْتَلُ عند بابك، فيبطل دمه وإنَّ للنَّاس في القَسامة لحياةٌ.
          وروى ابن أبي شيبة: حدَّثنا عبد الأعلى، عن مَعْمَر، عن الزُّهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فسألني عن القَسامة، وقال: بدا لي أن أردَّها؛ إنَّ الأعرابي يشهد، والرَّجل الغائب يجيء فيشهد قلت: يا أمير المؤمنين، إنَّك لن تستطيع ردَّها؛ قضى بها رسولُ الله صلعم والخلفاءُ بعده.
          وحدَّثنا ابن نُمير: حدثنا سعيد، عن قتادة: أنَّ سليمان بن يسار حدَّث أنَّ عمر بن عبد العزيز قال: ما رأيت مثل القسامة قطُّ أقُيد بها، والله تعالى يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقالت الأسباط: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81].
          قال سليمان: فقلت: القَسامة حقٌّ قَضَى بها رسولُ الله صلعم ، وقد سَبَقَ عُمَرَ بن عبد العزيز إلى إنكار القَسامة سالمُ بن عبد الله، فأخرج ابن المنذر عنه أنَّه كان يقول: يا لَقَومٍ يحلفون على أمرٍ لم يروه ولم يحضروه، ولو كان لي أمرٌ لعاقبتهم ولجعلتهم نكالًا، ولم أقبل لهم شهادةً، وهذا يقدح في نقل إجماع أهل المدينة على القَود بالقسامة، فإنَّ سالمًا من أجلِّ فقهاء المدينة.
          وأخرج ابن المنذر أيضًا عن ابن عبَّاسٍ ☻ : أنَّ القَسامة لا يقاد بها. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق الحكم بن عتيبة: أنَّه كان لا يرى القسامة شيئًا.
          ومُحَصَّلُ الاختلافِ في القَسَامة هل يُعمل بها أو لا، وعلى الأوَّل فهل تُوجِبُ القَوَدَ أو الدِّيةَ، وهل يُبْدَأ بالمدَّعين أو المدَّعى عليهم، واختلفوا أيضًا في شرطها.