نجاح القاري لصحيح البخاري

باب العاقلة

          ░24▒ (بابُ الْعَاقِلَةِ) بكسر القاف، جمع: عاقل، وهو دافع الدِّية، وسمِّيت الدِّية: عقلًا، تسميةً بالمصدر؛ لأنَّ الإبل كانت تُعْقَل بفناءِ وليِّ القتيل، ثمَّ كثر الاستعمال حتَّى أُطْلِقَ العَقْلُ على الدِّية ولو لم تكن إبلًا، وقيل: اشتقاقها من عقل يَعْقل: إذا تحمَّل، / فمعناه أنَّه تحمل الدِّية عن القاتل، وقيل: من عقل يعقل: إذا منع ودفع، وذلك أنَّه كان في الجاهليَّة كلُّ من قَتَلَ التجأَ إلى قومه؛ لأنَّه يُطْلَبُ ليُقْتَل، فيَمْنَعون منه القَتْلَ فسُمِّيت: عاقلةً؛ أي: مانعةً. ومنه سمِّي العقل لمنعه عن الفواحشِ.
          وقال ابنُ فارس عقلت القتيل؛ أي: أعطيتُ ديته، وعقلتُ عنه: إذا التزمت ديته وأدَّيتها عنه. والعاقلة: أهل الدِّيوان، وهم أهل الرَّايات، وهم الجيش الَّذين كُتِبَتْ أساميهم في الدِّيوان، وعند مالك والشَّافعي وأحمد هم أهل العشيرة وهي العَصباتُ، وعن بعض الشَّافعيَّة عاقلة الرَّجل: قراباتُه من قبل الأب وهي عصبتُه.
          وقال الكرماني: العاقلةُ أولياءُ النِّكاح، وقيل: إن لم يكن القاتل من أهل الدِّيوان فعاقلتُه أهل حرفته، وإن لم يكن فأهل حِلْفهِ، وتحَمُّلُ العاقلةِ الدِّيةَ ثابتٌ بالسُّنَّة، وأجْمَعَ أهلُ العِلْم على ذلك، وهو مخالفٌ لظاهر قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] لكن خصَّ من عمومها ذلك لما فيه من المصلحة؛ لأنَّ القاتل لو أُخِذَ بالدِّية لأَوْشَك أن يأتيَ على جميع ماله؛ لأنَّ تتابعَ الخطأ منه لا يؤمن ولو تُرِكَ بغير تغريمٍ لأُهْدِرَ دمُ المقتول، ويحتمل أن يكون السِّرُّ فيه أنَّه لو أُفْرِدَ بالتَّغريم حتَّى يفتقرَ لآلَ الأمرُ إلى الإهدار بعد الاقتصار، فجعلَ على عاقلته؛ لأنَّ احتمالَ فقر الواحد أكثر من احتمالِ فقر الجماعة، ولأنَّه إذا تكرَّر منه كان تحذيره من العَود إلى مثل ذلك من جماعةٍ أَدْعَى إلى القَبول من تحذيرِ نفسه، والعِلْمُ عند الله تعالى، وهي على الرِّجال البالغين الأحرار أُوِلي اليَسار منهم.