نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً}

          ░11▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) في سورة النِّساء ({وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [النساء:92]) أي: وما صحَّ له وليس من شأنه ({أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا}) ابتداء بغير حقٍّ ({إِلاَّ خَطَأً}) صفة مصدر محذوف؛ أي: قتلًا خطأ أو على الحال؛ أي: لا يقتله في شيءٍ من الأحوال إلَّا حال الخطأ، أو مفعوله؛ أي: لا يقتله لعلَّةٍ إلَّا خطأ، وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ، وظاهره غَيْرُ مرادٍ فإنَّه لا يُشْرَعُ قَتْلُه خطأ ولا عَمْدًا، تقديره: لكنْ إن قَتَلَه خَطَأ.
          وقال الأصمعيُّ وأبو عبيد: المعنى: إلَّا أن يقتله مُخْطِئاً ({وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا}) قتلًا ({خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}) مبتدأ، والخبر محذوف؛ أي: فعليه تحرير رقبةٍ؛ أي: عتقها، والرَّقبة النَّسمة ({مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]) محكومٌ بإسلامها، قيل: لما أخرجَ نفسًا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخلَ نفسًا مثلها في جملة الأحرار؛ لأنَّ إطلاقها من قيد الرِّقِّ كإحيائها من قبل أنَّ الرَّقيق مُلْحَقٌ بالأموات، إذ الرِّقُّ أثرٌ من آثار الكفر، والكُفْرُ مَوتٌ حُكْمًا، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، وإنَّما وجبَ عليه ذلك لما ارتكبه من الذَّنب العظيم وإن كان خطأً، وإنَّما قيل مؤمنةً؛ لأنَّه لا تجوز / الكافرة.
          وحكى ابنُ جرير عن ابن عبَّاس ☻ والشَّعبيِّ، وإبراهيم النَّخعي، والحسنِ البصري أنَّهم قالوا: لا يجزئ الصَّغير حتَّى يكون قاصدًا للإِيمان، واختار ابنُ جرير أنَّه إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين جاز وإلَّا فلا، والَّذي عليه الجمهور أنَّه متى كان مسلمًا صحَّ عتقُه عن الكفَّارة سواءٌ كان صغيرًا أو كبيرًا.
          ({وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]) مؤدَّاةٌ إلى وَرَثَتِه عوضًا عمَّا فاتهم من قريبهم يقتسمونها، كما يقتسمون الميراث، لا فرق بينها وبين سائر التَّركات، فيقضى بها الدُّيون وتنفذ الوصيَّة إلى آخره، وإنَّما تجب على العاقلة لا في مال القاتل ({إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}) أي: يتصدَّقوا عليه بالدِّية؛ أي: يعفوَ عنه فلا يجب ({فَإِنْ كَانَ}) أي: المقتولُ خطأ ({مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}) أي: أعدائكم؛ أي: كفرةً محاربين، والعدوُّ يُطلق على الجَمع ({وَهُوَ}) أي: المقتول ({مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}) أي: فعلى قاتله الكفَّارةُ دون الدِّية لأهله؛ إذ لا وراثة بينه وبينهم؛ لأنَّهم محاربون؛ أي: إذا كان القتيل مؤمنًا ولكنْ أولياؤه من الكفَّار أهلُ حربٍ فلا ديةَ لهم وعلى قاتِلِه تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ لا غير.
          ({وَإِنْ كَانَ}) أي: المقتولُ ({مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ}) أي: بين المسلمين ({وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}) أي: عَهْدُ ذِمَّةٍ أو هدنةٍ ({فَدِيَةٌ}) أي: فالواجب ديةٌ ({مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}) أي: أهل القتيل ({وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}) كالمسلم، ولعلَّه فيما إذا كان المقتول معاهدًا وكان له وارثٌ مُسْلِمٌ ({فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}) أي: رقبةً بأن لا يملكها ولا ما يتوصَّل به إليها ({فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ}) أي: فعليه صيامُ شهرين ({مُتَتَابِعَيْنِ}) لا إفطارَ بينهما بل يسردُ صومَهُما إلى آخرهما، فإن أفطرَ من غير عذرٍ من مرضٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ استأنفَ، واختلفوا في السَّفر هل يقطعُ أم لا على قولين.
          ({تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}) أي: قبولًا من الله ورحمةً منه، من تابَ الله عليه إذا قَبِلَ توبَتَه؛ يعني: شَرَعَ ذلك توبةً منه؛ تيسيرًا عليكم وتخفيفًا عنكم بتحرير الرَّقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها أو فليتب توبةً فهو نصبٌ على المصدر ({وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا}) بما أمر ({حَكِيمًا} [النساء:92]) فيما قدَّر؛ أي: لم يزل عليمًا بما يُصْلِحُ عبادَهُ فيما يكلِّفهم من فرائضهِ، / حكيمًا فيما يقضِي فيه ويأمر.
          وقد سقط في رواية أبي ذرٍّ وابنِ عساكر: من قوله: <{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} إلى: {حَكِيمًا}> وقال بعد قوله: {إلَّا خَطَأ}: <الآية>، وساق الباقون الآية إلى: <{عَلِيمًا حَكِيمًا}>.
          وهذه الآيةُ أصلٌ في الدِّيات؛ قد ذَكَرَ فيها دِيَتَيْنِ وثلاثَ كفَّاراتٍ، ذَكَرَ الدِّيةَ والكفَّارةَ بقتل المؤمن في دار الإسلام، والكفَّارةَ دون الدِّيةِ في قَتْلِ المؤمن في دار الحَرْبِ في صفِّ المشركين إذا حضر معهم الصَّفَّ فقتله مسلم، وذكر الدِّية والكفَّارة في قتل الذِّمِّي في دار الإسلام، ولم يذكر المؤلِّف في هذا الباب حديثًا.
          تتمة: قال مجاهد وعكرمة: هذه الآيةُ نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة المخزوميِّ قَتَلَ رجلًا مُسْلِمًا يقال له: الحارث بن زيد ولم يَعْلَم بإسلامه، وكان ذلك الرَّجل يعذِّبه بمكَّة مع أبي جهلٍ، ثمَّ أَسْلَم وخَرَجَ مهاجرًا إلى النَّبي صلعم فلَقِيهِ عياش في الطَّريق بظاهر الحرَّة فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثمَّ جاء إلى النَّبي صلعم فأخبره بذلك فأمره أن يعتقَ رقبةً، ونزلت الآية، حكاه الطَّبري عنهما.
          وقال السُّدِّيُّ: قَتَلَه يوم الفتح، وقد خرج من مكَّة ولا يَعْلَم بإسلامه، وقيل: نزلتْ في أبي عامر والد أبي الدَّرداء خرجَ إلى سريةٍ، فعَدَلَ إلى شعبٍ فوجد رجلًا في غنمٍ فقَتَلَه وأَخَذَها، وكان يقول: لا إله إلَّا الله، فوَجَدَ في نَفْسِه من ذلك، فذكره لرسول الله صلعم فأنكرَ عليه قتله إذا قال: لا إله إلَّا الله، فنزلت، وقيل: نزلتْ في والدِ حذيفة بن اليمان قُتِل خطأً يوم أحدٍ، وقد مضى عن قريب [خ¦6668].