نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ومن أحياها}

          ░2▒ (بابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}) وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب {وَمَنْ أَحْيَاهَا}> وزاد الإسماعيلى والأَصيلي: <{فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}> (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلاَّ بِحَقٍّ) من قصاصٍ (حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا) وكذا في غير رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتَملي، وفي رواية أبي ذرٍّ عن المُسْتَملي: <فكأنما أحيى الناس جميعًا>، والمراد من هذه الآية قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
          وعليه ينطبق أوَّل أحاديث الباب، وهو قوله: ((إلَّا كان على ابن آدم كفلٌ منها)) وسائرها في تعظيم أمر القتل، وهو اثنا عشر حديثًا قال ابن بطَّال: وفيها تغليظ أمر القتل والمبالغة في الزَّجر عنه. قال: واختلف السَّلف في المراد بقوله: {قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} و{أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} فقالت طائفةٌ: معناه: تغليظ أمر الوزر والتَّعظيم في قتل المؤمن، أخرجه الطَّبري عن الحسن ومجاهد وقتادة. ولفظ الحَسَنِ: أنَّ قاتل النَّفس الواحدة يصيرُ إلى النَّار، كما لو قتل النَّاس جميعًا. وقيل: معناه أنَّ النَّاسَ خصماؤه جميعًا، وقيل: / يجب عليه من القَوَدِ بِقَتْلِه المؤمن مثلُ ما يجبُ عليه لو قَتَلَ الناسَ جميعًا؛ لأنَّه لا يكون عليه غير قتلةٍ واحدةٍ لجميعهم، أخرجه الطَّبريُّ عن زيد بن أسلم.
          واختار الطَّبري: أنَّ المرادَ بذلك تعظيمُ العقوبة وشدَّةُ الوعيدِ من حيث إنَّ قتل الواحد وقَتْلَ الجميع سواءٌ في استيجاب غضبِ الله وعقابه، وفي مقابله أنَّ معناه أنَّ من لم يقتل أحدًا فقد حَيِيَ النَّاسُ منه جميعًا لسلامتهم منه.
          وحكى ابن التِّين: أنَّ معناه: أنَّ من وجب له قصاصٌ فعفا عنه أُعْطِيَ من الأجر مثل ما لو أحيا النَّاس جميعًا، وقيل: وجبَ شكره على النَّاس جميعًا، وكأنَّما منَّ عليهم جميعًا.
          قال ابن بطَّال: وإنما أختار هذا؛ لأنَّه لا تُؤْخَذَ نفسٌ يقوم قتْلُها في عاجل الضَّررِ مقامَ قَتْلِ جميعِ النُّفوس ولا إحياؤها في عاجل النَّفع مقام إحياء جميع النُّفوس.
          قال الحافظُ العسقلاني: واختارَ بعضُ المتأخِّرين تخصيصَ الشِّقِّ الأوَّل بابن آدم الأوَّل؛ لكونه سنَّ القتل وهتك حرمةَ الدِّماء وجرَّأ النَّاسَ على ذلك وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ الإشارةَ بقوله في أوَّل الآية: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة:32] لقصَّة ابني آدم فدلَّ على أنَّ المذكورَ بعد ذلك يتعلَّق بغيرهما، فالحملُ على ظاهرِ العُموم أولى، والله أعلم.
          وفي «المدارك»: ومن أحياها ومن اسْتَنْفَذَها من بعضِ أسباب الهلكة من قَتْلٍ، أو غَرَقٍ، أو هَدْمٍ، أو غير ذلك، وجعل قتْلَه الواحدَ كقَتْلِ الجَميع، وكذلك الإحياء ترغيبًا وترهيبًا؛ لأنَّ المتعرِّضَ لقتل النَّفس إذا تصوَّر أنَّ قتلها كقتلِ النَّاس جميعًا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذا الَّذي أرادَ إحياءها إذا تصوَّر أنَّ حُكْمَه حُكْمُ إحياء جميع النَّاس رَغِبَ في ذلك، والله الموفق.
          وتعليق ابن عبَّاس ☻ أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشَّامي في «تفسيره» عنه، ووَصَلَه ابنُ أبي حاتم، ورواه وكيع عن سفيان.