نجاح القاري لصحيح البخاري

باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات

          ░14▒ (بابُ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْجِرَاحَاتِ) جمع: جِراحة، ووجوبُ القِصاص في ذلك قولُ الثَّوريِّ والأوزاعيِّ ومالكٍ والشَّافعي. وقال أبو حنيفةَ: لا قصاصَ بين الرِّجال والنِّساء فيما دون النَّفْسِ من الجراح؛ لأنَّ المساواة معتبرةٌ في النَّفس دون الأطراف ألا ترى أنَّ اليد الصَّحيحةَ لا تؤخذ بِيَدٍ شَلَّاء، والنَّفسُ الصَّحيحةُ تُؤخَذُ بالمريضة. وأجاب ابن القصَّار: بأنَّ اليدَ الشَّلَّاء في حكم الميتةِ، والحيُّ لا يقاد بالميِّت.
          وقال ابنُ المنذر: لمَّا أَجْمَعُوا على القصاص في النَّفس، واختلفوا فيما دونها وجب ردُّ المُخْتَلِفِ إلى المُتَّفق.
          (وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ) أراد بأهل العلم الجمهورَ من العلماء، فإنَّ عندهم يقتل الرَّجل بالمرأة بالنَّصِّ (وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ) ☺ (تُقَادُ الْمَرْأَةُ) / بضم الفوقية بعدها قاف؛ أي: يقتصُّ منها إذا قتلت الرَّجل (فِي كُلِّ عَمْدٍ) أي: قتل عمدٍ (يَبْلُغُ نَفْسَهُ) أي: نفس الرَّجل (فَمَا دُونَهَا) أي: دون النَّفس (مِنَ الْجِرَاحِ) أي: في كلِّ عضوٍ من أعضائها عند قَطْعِها من أعضائه، وفيه: الخلاف الَّذي ذكر آنفًا، وهذا الأثرُ وَصَلَه سعيدُ بنُ منصور من طريق النَّخَعِيِّ قال: كان فيما جاء به عروة البارقيُّ إلى شريح من عند عمر ☺ قال: «جرْحُ الرِّجال والنِّساء سواءٌ». وسندُه صحيحٌ إن كان النَّخعي سمعَه من شريحٍ وفيه كلامٌ. ولهذا ذَكَرَه البخاريُّ بصيغة التَّمريض، وقد أخرجه ابنُ أبي شيبة من وجهٍ آخر عن إبراهيم، عن شريحٍ قال: أتاني عروة، فذكره.
          (وَبِهِ) أي: بما روي عن عمر بن الخطاب ☺ (قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعي أخرجه ابنُ أبي شيبة من طريق الثَّوري، عن جعفر بن برقان، عن عمر بن عبد العزيز، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: القصاص بين الرَّجل والمرأة في العَمْدِ سواء. وأخرج الأثرمُ من هذا الوجه عن عمر بن عبد العزيز قال: القصاصُ فيما بين المرأة والرَّجل حتَّى في النَّفس (وَأَبُو الزِّنَادِ) عبدُ الله بن ذكوان (عَنْ أَصْحَابِهِ) أي: أصحاب أبي الزِّناد عبد الرَّحمن بن هُرمز الأعرج، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزُّبير وغيرهم، وأَثَرُ أبي الزِّناد أَخْرَجَهُ البيهقيُّ من طريق عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه قال: كلُّ من أدركتُ من فقهائنا، وذَكَرَ السَّبعة في مشيخةٍ سواهم أهل فقهٍ وفضلٍ ودينٍ، قال: وربَّما اختلفوا في شيءٍ فأخذنا بقولٍ أكثرِهم وأفضلِهم رأيًا أنَّهم كانوا يقولون: المرأة تقادُ بالرَّجل عينًا بعين وأذنًا بأذنٍ، وكل شيءٍ من الجراح في ذلك وإن قَتَلَها قِتلَ بها.
          (وَجَرَحَتْ) بالجيم المفتوحة (أُخْتُ الرُّبَيِّعِ) بضم الراء وفتح الموحَّدة وتشديد التحتية المكسورة بعدها عين مهملة مصغَّرًا، الربيع ضدُّ: الخريف، بنت النَّضر، بنون مفتوحة معجمة ساكنة (إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : الْقِصَاصُ) بالرفع في الفرع، وفي غيره: بالنصب على الإغراء، وفي رواية النَّسفي: <كتاب الله القصاص>، والمُعْتَمَدُ ما عند الجماعة. قال أبو ذرٍّ: كذا وقع هنا، والصَّواب: الرُّبيِّع بنت النَّضر عمَّة أنسٍ ☺.
          قال الكِرماني: / قيل: صوابه: ((وجرحت الرُّبَيع)) بحذف لفظ أخت، فإنَّه الموافق لما تقدَّم في البقرة [خ¦4500] في آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]. من وجهٍ آخر عن أنسٍ ☺: أنَّ الرُّبيع بنتَ النَّضر عمَّةَ أنسٍ كَسَرَتْ ثنيةَ جاريةٍ، فقال رسول الله صلعم : ((كتاب الله القصاص)) قال: إلا أن يقال: إنَّ هذه امرأةٌ أخرى، لكنَّه لم يُنْقَل عن أحدٍ، كذا قال، وقد ذكر جماعةٌ أنَّهما قضيَّتان، والمذكورُ هنا طرفٌ من حديثٍ أخرجه مسلمٌ من طريق حمَّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ ☺: أنَّ أختَ الرُّبَيِّعِ أم حارثة جرحت إنسانًا فاختصموا إلى النَّبي صلعم فقال: ((القصاص القصاص))، فقالت أمُّ الرُّبَيِّع: يا رسول الله أيقتصُّ من فلانة؟ والله لا يقتصُّ منها فقال: ((سبحان الله يا أمَّ الرُّبَيِّع القصاص كتاب الله))، قال: فما زالت حتَّى قَبِلُوا الدِّية، فقال: ((إنَّ من عبادِ الله من لو أَقْسَمَ على الله لأبرَّه)).
          والحديثُ الَّذي أشار إليه في سورة البقرة مختصرٌ من حديثٍ طويلٍ ساقه البخاري في الصُّلح بتمامه [خ¦2703] من طريق حُميد، عن أنسٍ ☺، وفيه: فقال أنس بن النَّضر: أتكسر ثنية الرُّبَيِّع يا رسول الله، لا والَّذي بعثك بالحقِّ لا تُكْسَرُ ثنيَّتُها، قال: ((يا أنسُ، كتاب الله القصاص)) فرضيَ القومُ وعَفَوا فقال: ((إنَّ من عبادِ الله من لو أَقْسَمَ على الله لأبرَّه)).
          وسيأتي بعد أربعة أبواب أيضًا باختصار.
          قال النَّووي: قال العلماء: المعروفُ روايةُ البخاريِّ، ويحتمل أن تكونا قضيَّتين.
          قال الحافظ العسقلاني: وجزمَ ابن حزمٍ بأنَّهما قضيَّتان صحيحتان وقعتا لامرأةٍ واحدةٍ إحداهما أنَّها جَرَحَتْ إنسانًا فقُضِيَ عليها بالضَّمان، والأُخرى أنَّها كَسَرتْ ثنيَّةَ جاريةٍ فقُضِيَ عليها بالقصاصِ، وحلفت أمُّها في الأولى وأخوها في الثانية.
          وقال البيهقيُّ بعد أن أورد الرِّوايتين: ظاهرُ الخبرين يدلُّ على أنَّهما قضيَّتان، فإن قُبِلَ هذا الجَمْعُ وإلَّا فثابتٌ أحفظُ من حُميد. قال الحافظُ العسقلاني: في القضيتين مغايراتٌ؛ منها هل الجانية الرُّبَيِّع أو أختها؟ وهل الجناية كسر الثَّنيَّة أم الجراحة؟ وهل الحالف أمُّ الرُّبَيِّع أو أخوها / أنس بن النَّضر؟
          وأمَّا ما وقع في أوَّل الجنايات عند البيهقي من وجهٍ آخر عن حُميدٍ عن أنس قال: لَطَمَتِ الرُّبيع بنتُ معوِّذ جاريةً، فكَسَرَتْ ثَنِيَّتها، فهو غلطٌ في ذكر أبيها، والمحفوظُ أنَّها بنت النَّضر عمَّةُ أنسٍ كما وقع التَّصريح به في «صحيح البخاري».
          وفي الحديث أنَّ كلَّ من وجبَ له القِصاص في نَفْسٍ أو دونها فعُفِيَ على مالٍ فرضوا به جازَ.