نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى:{أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف}

          ░6▒ (باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]) أوَّل الآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [المائدة:45] أي: وفرضنا على اليهود فيها؛ أي: في التَّوراة: أنَّ النَّفس مأخوذةٌ / بالنَّفس مقتولةٌ بها إذا قتلها بغير حقٍّ ({وَالْعَيْنَ}) مفقوءة ({بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ}) مجدوعةٌ ({بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ}) مقطوعةٌ ({بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ}) مقلوعةٌ ({بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}) أي: ذات قصاصٍ وهو المقاصَّة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة ({فَمَنْ تَصَدَّقَ}) من أصحاب الحقِّ ({بِهِ}) أي: بالقصاص وعفا عنه ({فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}) أي: فالتصدُّق به كفَّارةٌ للمتصدق بإحسانه يكفِّر الله من سيِّئاته، وعن عبد الله بن عَمرو: «يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدَّق به».
          ({وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}) من القصاص وغيره ({فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}) بالامتناع عن ذلك وتركهم العدل الذي أُمروا به، وبالتَّسوية بينهم فيه؛ فخالفوا وتعدُّوا وظلموا، وسيقت هذه الآية الكريمة بكمالها إلى قوله: {الظَّالِمُونَ}، وفي رواية أبي ذرٍّ والأَصيلي: <باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}>. وفي رواية النَّسفي كذلك، ولكن بعده: < إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}>.
          وهذه الآية الكريمة وإن وردت في اليهود فإنَّ حُكْمَها مستمرٌّ في شريعة الإسلام لِـمَا ذَهَبَ إليه كثيرٌ من الأصوليين والفقهاء من أنَّ شَرْعَ من قَبْلَنا شرعٌ لنا إذا قصَّه اللهُ ورسولُه من غير نكيرٍ.
          وقد احتجَّ الأئمَّة كلُّهم على أنَّ الرَّجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية. واحتجَّ أبو حنيفة وأصحابه أيضًا بعمومها على أنَّ المسلم يقاد بالذِّميِّ في العمد. وبه قال النَّووي وجعلوا هذه الآيةَ ناسخةً للآية الَّتي في البقرة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]. وعن أبي مالكٍ: أنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بقوله: إنَّ النَّفس بالنَّفس، ويؤخذ من قوله: أنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ جوازُ قتل الحرِّ بالعبد أيضًا كقتل المسلم بالذِّميِّ، وهو قول الثَّوري والكوفيين. وقال مالكٌ واللَّيث والأوزاعي والشَّافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يقتل حرٌّ بعبدٍ.
          وفي «التوضيح»: هذا مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ♥ ، واحتجُّوا بحديث «الصحيحين»: ((لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بكافر)). وقد حكى الإمامُ الشَّافعيُّ الإجماعَ على خلافِ قول الحنفيَّة في ذلك.
          قال ابنُ كثير: ولكن لا يلزم من ذلك بطلانُ قولهم إلَّا بدليلٍ مخصِّصٍ للآية. وقال صاحبُ «الجوهر النقي»: هذه الآية؛ يعني: آية البقرة / حجَّةٌ لمن قال: يُقْتَلُ المُسْلِمُ بالذِّمي؛ لأنَّ عمومَ القَتْلِ يَشْمَلُ المُسْلِمَ والكافرَ خُوْطِبَ المؤمنون بوجوب القصاص في عموم القتل، وكذا قوله: {الحُرُّ بالحُرِّ}، يشملهما بعمومه.
          وقال الشَّافعي: ليس بين الحرِّ والعبد قصاصٌ، واحتجَّ بأنَّ العبدَ سلعةٌ فلا تجب فيه إلَّا القيمة لو قُتِلَ خطأ. وسيأتي مزيدٌ لذلك بعد باب إن شاء الله تعالى [خ¦6879].