التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب: الشهادة سبع سوى القتل

          قوله: (بَابٌ: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ): ذكر ابنُ المُنَيِّر ما في الباب بلا إسنادٍ، ثمَّ قال: (أشكل على الشَّارح _يعني: ابن بطَّال_ مطابقةُ التَّرجمة لحديث: «الشُّهداء خمسةٌ»، فقال: هذا دليلٌ على أنَّ البخاريَّ ☼ مات ولم يُهذِّب كتابَه، وكأنَّه أراد أن يُدخِل في التَّرجمة حديثَ مالكٍ ☼، وفيه: «أنَّ الشُّهداءَ سبعةٌ سوى القتل في سبيل الله»، فأعجلتْه المنيَّة، ويحتمل عندي أن يكون البخاريُّ أراد التَّنبيهَ على أنَّ الشَّهادةَ لا تنحصرُ في القتل، بل لها أسبابٌ أُخَرُ، وتلك الأسبابُ أيضًا اختلفت الأحاديث في عددها، ففي بعضها: «خمسةٌ»، وهو الذي صحَّ عند البخاريِّ ووافق شرطَه، وفي بعضها: «سبعةٌ»، ولم يوافِق شرطَ البخاريِّ، فنبَّه عليه في التَّرجمة؛ إيذانًا بأنَّ الوارد في عددها مِن الخمسة أو السَّبعة ليس على معنى التَّحديد الذي لا يزيد ولا ينقص، بل هو إخبارٌ عن مخصوصِ ما ذُكِر، والله أعلم بحصرها)، انتهى.
          وحديث مالكٍ هو(1) عن جابر بن عَتِيك ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: «ما تعدُّون الشَّهادةَ؟» قالوا: القتلُ في سبيل الله، قال صلعم: «الشهادة سبعٌ سوى القتلِ في سبيل الله: المطعون شهيدٌ، والغَرِق شهيدٌ، وصاحب ذات الجَنْبِ شهيدٌ، والمبطون شهيدٌ، وصاحب الحرق شهيدٌ، والذي يموت تحت الهَدَم شهيدٌ، والمرأة تموت بجُمْعٍ شهيدةٌ»، أخرجه مالك، وأبو داود، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، وأبو حاتم، وفي سند حديث «المُوَطَّأ»: عتيك بن الحارث عن عمِّه جابر بن عتيك، وهو تابعيٌّ، ما روى عنه سوى سبطِه عبدِ الله بن عبد الله، فلهذا لم يخرِّجه البخاريُّ؛ لأنَّ رواية واحد لا تُخرِج الشَّخصَ عن جهالة العين، وقد ذكره ابن حِبَّان في «الثِّقات»، ولم يذكر عنه راويًا سوى عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك، ولكن قال أبو الحسن ابن القطَّان: (إنَّ الشخص إذا وثَّقه واحدٌ وروى عنه واحدٌ؛ انتفت عنه جهالة العين)، ولكن هذا قولٌ في المسألة، والله أعلم.
          فائدةٌ: أوَّلُ منِ استُشهِد في(2) الإسلام سُميَّة أمُّ عمَّار بن ياسر ♦، وكانت أَمَةً لأبي حذيفةَ بنِ المغيرة بن عبد الله بن عُمرَ بن مخزوم، فزوَّجها مِن حليفه ياسر بن عامر بن مالك، طعن أبو جهل سُميَّةَ بحربةٍ حتَّى بلغت فرجها، فماتت رحمة الله عليها، وقيل: أوَّل قتيل في الإسلام: الحارث بن أبي هالة، ابنُ خديجة، فيما ذكره العسكريُّ، قاله مغلطاي في «سيرته الصُّغرى»، والحارث صحابيٌّ، قال الذَّهبيُّ في «تجريده»: (الحارث بن أبي هالة هند بن النَّبَّاش، وهو أوَّل مَن قُتِل لله في الإسلام تحت الكعبة، ذكره ابنُ الكلبيِّ، وقاله ابنُ بشكوال)، انتهى، وقال الثَّعلبيُّ في «تفسيره»: (إنَّ ياسرًا والدَ عمَّار وسُميَّةَ المذكورة ☻(3) أوَّلُ قتيلٍ قُتِلا في الإسلام) انتهى(4).
          فائدةٌ ثانيةٌ: أوَّل مَن يُدعَى إلى الجنَّة مِن شهداء هذه الأمَّة: مهجع مولى عمر بن الخطَّاب، وهو أوَّل قَتيل من المسلمين في بدر، رماه ابن الحضرميِّ بسهم(5)، قاله شيخنا في (تفسير سورة العنكبوت)، وقد قال فيه ╕ يومئذٍ: «مهجعٌ سيِّدُ الشُّهداء»، انتهى، وقال ابنُ عقبة _كما نقله ابنُ سيِّد النَّاس(6)_: أوَّلُ قتيلٍ مِن المسلمين يوم بدر: عُمَير بن الحُمَام، وقال ابن سعد: (وكان أوَّلَ مَن خرج مِن المسلمين مهجعٌ مولى عُمَر، فقتله عامرُ ابن الحضرميِّ، وكان أوَّل قتيلٍ من الأنصار حارثة بن سُراقة، ويقال(7): قتله حِبَّان ابن العَرِقة، ويقال: عمير بن الحُمَام، قتله خالد بن الأعلم العُقيليُّ).
          فائدةٌ ثالثةٌ: الشُّهداء جماعةٌ كثيرةٌ، وقد ذكر منهم القرطبيُّ في «تذكرته» جماعةً، وذكر شيخُنا الشَّارحُ جماعةً، وجملةُ مَن وقفتُ عليه أنَّه أُطلِق عليه أنَّه شهيدٌ في حديثٍ _ولا أشترط الصِّحَّة_ جماعةٌ، وهم الثمانية المذكورون في حديث «المُوَطَّأ» الذي قدَّمتُه، وقد رواه أيضًا غيرُه كما ذكرتُه، والقتلُ في سبيل الله أعلاها، وفي «أبي داود»، و«النَّسائيِّ»، و«التِّرمذيِّ» وقال: حسن صحيح: (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله، ومن قُتِل دون دمه، ومن قُتِل دون دِينه)، انتهى، ومَن وقصَه فرسُه، أو لدغته هامَّةٌ، أو مات على فراشه على أيِّ حتف كان في الله؛ فهو شهيد، ومَن حبسه السُّلطان ظالمًا له أو ضربه فمات؛ فهو شهيد، وكلُّ موتةٍ يموت بها المسلم؛ فهو شهيد، وفي حديث ابن عبَّاس: «المُرابِط يموت في فراشه في سبيل الله شهيدٌ، والشَّرِق شهيدٌ، والذي يفترسه السَّبُع شهيدٌ»، وعن ابن مسعود: «مَن تردَّى من الجبال؛ شهيد»، أخرجه ابن عبد البَرِّ، قال ابن العربيِّ: (وصاحبُ النَّظرة _وهو المَعِين_ والغريبُ شهيدان)، قال(8): (وحديثُهما حسنٌ)، ولمَّا ذكر الدَّارقطنيُّ حديثَ ابن عمر: «الغريب شهيد»؛ صحَّحه، ولابن ماجه مرفوعًا من حديث أبي هريرة: «من مات مريضًا؛ مات شهيدًا...»، الحديث، وله عنِ ابنِ مسعود: «وإنَّ الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد»، وجاء من حديث ابن عبَّاس: «مَن عشق، وعفَّ، وكتم، ومات، مات شهيدًا»، وقد ضعَّفوه، والفقهاء ذكروه من الشُّهداء، وفي «التِّرمذيِّ»: «مَن قال حين يصبح ثلاثَ مرَّاتٍ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آياتٍ من آخر سورة الحشر...، فإن مات من يومه؛ مات شهيدًا»، حسَّنه مع الغرابة، وفي «الصَّحابة» لأبي موسى عن عليِّ بن الأقمر، عن أبيه مرفوعًا، وفيه: «من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ الله»، وفي «علل ابن أبي حاتم»: (سألت أبي عن حديث ابن أبي ليلى، عن أبيه، عن جدِّه أبي ليلى مرفوعًا: «من أكله السَّبُع؛ فهو شهيد، ومَن أدركه الموت وهو يكدُّ على عياله من حلال؛ فهو شهيد» [فقال: حديثٌ منكر)، وفي حديثٍ آخَرَ من طريق ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: «اللديغ شهيد] والشَّريق شهيد، والذي يفترسه السَّبُع شهيد، والخارُّ عن دابَّته شهيد»، علَّتُه عمرُو بن عطيَّة الوداعيُّ، ضعَّفه الدَّارقطنيُّ، وفي «الثَّعلبيِّ»: «مَن قرأ آخِرَ سورة الحشر فمات من ليلته؛ مات شهيدًا»، وروى الآجرِّيُّ: «يا أنس؛ إن استطعت أن تكون على وُضوء؛ فافعل، فإنَّ ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء؛ كُتِب له شهادةٌ»، وللبزَّار من حديث عبادة بن الصَّامت مرفوعًا: «والنُّفساء شهادة»، ولأبي نُعَيم عنِ ابنِ عُمَرَ: «من صلَّى الضُّحى، وصام ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر، ولم يتركِ الوترَ، كُتِب له أجر شهيد»، وعن جابر: «مَن مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، أُجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابَعُ الشُّهداء»، قال أبو نعيم: غريب من حديث جابر وابن المنكدر، تفرَّد به عمر بن موسى الوجيهيُّ عن ابن المنكدر، وعند الطَّبرانيِّ وأبي موسى من حديث عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جدِّه مرفوعًا...، فذكر حديثًا: «والسِّلُّ شهيدٌ، والغريب شهيد»، وعبدُ الملك ووالدُه ضعيفان، وجدُّه(9) لم يذكره في الصَّحابة إلَّا الطَّبرانيُّ، وقد ذكره أبو موسى كما قاله شيخنا، وقد علَّم عليه الذَّهبيُّ: (س)؛ يعني: أنَّه في «كتاب أبي موسى»، وفي «الأفراد والغرائب» للدَّارقطنيِّ من حديث أنسٍ مرفوعًا: «المحموم شهيد»، ثمَّ قال: (تفرَّد به الموقريُّ عن ابن شهاب عنه)، ولأبي عُمرَ في كتاب «العلم» من حديث أبي ذرٍّ وأبي هريرة: «إذا جاء الموتُ طالبَ العلمِ وهو على حاله، مات شهيدًا»، ولابن أبي عاصم في «الجهاد» من حديث أبي سلَّام عن ابن معانق الأشعريِّ، عن أبي مالك الأشعريِّ: «من خرج به(10) خُراج في سبيل الله، كان عليه طابَع / الشُّهداء»، وذكر المنتجاليُّ في «تاريخه» عن ابن سيرين قال: (رأيتُ كثيرَ بنَ أفلح مولى أبي أيُّوب في المنام، فقلت: كيف(11) أنت؟ قال: بخير، قلت: أنتم الشهداء؟ فقال: إنَّ المسلمين إذا قتلوا فيما بينهم، لم يكونوا شهداء، ولكنَّا نُدَباء، قال مُحَمَّد: وأعياني أن أعرف النُّدباء وغلبني على ذلك، لخَّصت هذا من «شرح شيخنا الإمام العلَّامة سراج الدِّين» ⌂، وقد عزا حديثَ: «مَن قُتِل دون ماله...»؛ الحديث إلى «الصحيح»، وإنَّما هو في «أبي داود»، و«التِّرمذيِّ»، و«النَّسائيِّ» كما ذكرتُه، وقد بقي غيرُ مَن ذكره من الشُّهداء، والله أعلم.


[1] (هو): سقط من (ب).
[2] في (ب): (على).
[3] التَّرضية جاءت في (ب) بعد قوله الآتي: (قتلا في الإسلام).
[4] (انتهى): سقط من (ب)، «تفسير الثعلبي» ░6/45▒.
[5] زيد في (ب): (قتله).
[6] زيد في (ب): (في «سيرته»).
[7] زيد في (ب): (فيه).
[8] في النسختين: (شهيد إلى أن قال)، والمثبت من «التوضيح»، وكذا كانت في (أ) قبل الإصلاح.
[9] (جده): سقط من (ب).
[10] في (ب) ومصدره: (عليه).
[11] زيد في (ب): (فعل الله)، وضرب عليها في (أ).