التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة}

          ░40▒ بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ} الآية [الجمعة:10]. /
          938- ذكر فيه عن سَهلٍ: (كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَحْقِلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا...) الحديثَ. ويأتي إن شاء الله في المزارعة والأطعمة، وأخرجه النَّسائيُّ، وأهمله ابن عساكر والطَّرْقيُّ.
          939- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ، بِهَذَا، وقال: مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ. ثمَّ قال:
          ░41▒ بَابُ القَائِلَةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ
          940- 941- ذكر فيه عن أنسٍ: (كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الجُمُعَةِ، ثُمَّ نَقِيلُ).
          وعن سَهلٍ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رسولِ اللهِ صلعم الجُمُعَةَ، ثُمَّ تَكُونُ القَائِلَةُ).
          الشَّرح: بعد أنَّ أقدِّم أنِّي لم أعرف اسمَ هذه مع شدَّة البحث عنها.
          الأَرْبِعَاءُ: جمع ربيعٍ، وهي السَّاقية الصَّغيرة تجري إلى النَّخل، حجازيَّةٌ. ذكرَه ابن سيده. وقال ابن التِّين: هي السَّاقية.
          وقيل: النَّهر الصَّغير. وقال أبو عبد الملك: هو حافَّات الأحواض ومجاري المياه. وقال صاحب «العين»: هي: الجداول، واحدها: ربيعٌ.
          والعَرق: عظمٌ عليه لحمٌ، والجمع: عُراق، وتحقِل مأخوذةٌ من الحَقْل، وهو الزَّرع المتشعِّب الورق. كذا قاله ابن بطَّالٍ، وتبعَه ابن التِّين فقال: تحقِل أي: تغرِس. وقيل: تزرع. قال: وفي رواية أبي ذرٍّ: تجعل، بالعين والجيم. قلتُ: وهو ما كتبه الدِّمياطيُّ بخطِّه.
          وفي سند الأوَّل أبو غسَّان المِسْمَعيُّ، وهو: محمَّد بن مطرِّفٍ الليثيُّ. وأبو حازمٍ واسمه: سَلَمة بن دِيْنارٍ القاصُّ، مات سنة أربعين ومائةٍ، وقيل: ثلاثٍ وثلاثين.
          وفي الثَّاني: ابن أبي حازمٍ، واسمه: عبد العزيز بن سَلَمة بن دينارٍ المدنيُّ، مات فجأةً في يوم الجمعة في مسجدِ رسول الله صلعم سنةَ اثنتين _وقيل: أربعٍ_ وثمانين ومائةٍ، ومولده سنة سبعٍ وثمانين، وبيعت داره فوُجد فيها أربعة آلاف دينارٍ. قال أحمد: لم يكن يُعرف بطلب الحديث، ولم يكن بالمدينة بعد مالكٍ أفقهُ منه، ويُقال: إنَّ كُتُب سليمانَ بن بلالٍ وَقَعت له ولم يسمعها.
          إذا عرفتَ ذلك فقوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة:10] إباحةٌ بعد حظرٍ بالاتِّفاق، وقيل: هو أمرٌ على بابه. وعن الدَّاوديُّ أنَّه إباحةٌ لمن كان له كفافٌ أو لا يَقْدِر على الكسْبِ وفرضٌ على عكسه. وألحق غيره من تُعطِّف عليه بسؤالٍ أو غيره بمن له كسبٌ.
          قلتُ: ونظيره {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33] _على اختلافٍ فيه_ {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج:28] لأنَّهم كانوا في الجاهليَّة يحرِّمون لحوم الضَّحايا فأعلَمَ بالإباحة، ومنه: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا} [الأنعام:142]، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222].
          وقوله: (كُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا) يحتمل التبرُّك به والحاجة إليه.
          وفيه: اصطناعُ المعروف ومواساةُ الأنصار وإمساكُ الرِّباع ليصونوا بها وجوهَهُم وعدم الاحتقار بشيءٍ من المعروف وإن قلَّ، وفضلُ الكَفَاف، وفرحُ المرء بما يأتيه من الفضل، والتَّهجيرُ بالجمعة، وزيارةُ الصَّالحين، والمسلمة والصَّالحة.
          وقوله: (فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْاقَهُ) ضبطه في رواية أبي الحسن بالغين المعجمة وبالفاء، وفي رواية أبي ذرٍّ بالعين المهملة والقاف. قيل: معناه: أنَّها جعلتُهُ مكان العَرَق، وهو اللَّحم.
          وقوله: (مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ) فقد سلف الجواب عنه في باب: وقت الجمعة. [خ¦905] أي: لاشتغالهم بالغسل والتَّبكير.
          وفيه: نوم القائلة، وهو مستحبٌّ، وقد قال تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] أي: من القائلة.
          ثمَّ موافقة الحديث للتَّرجمة ظاهرٌ، فإنَّ انصرافَهُم كان لابتغاء الغداء، والقائلة عوض ما فاته من ذلك في وقته، وهذا الحديث ردٌّ على قول مجاهدٍ وأحمد أنَّ الجمعة تُصلَّى قبل الزَّوال استدلالًا بقوله: (وَمَا كُنَّا نَقِيْلُ إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ). ولا يُسمَّى بعد الجمعة وقت الغداء، فبان أنَّ قائلتهم وغدائهم بعد الجمعة، إنَّما كان عوضاً عمَّا فاتهم في وقته مِن أجل بكورهم، وعلى هذا التَّأويل جمهورُ الأئمَّة وعامَّة العلماء، وقد أسلفنا ذلك.
          ووجهُ ذِكْر البخاريُّ الحديثَ في باب: الغَرْس مِن كتابِ المزارعة ليستدلَّ به على عمل الصَّحابة رجالاً ونساءً بأنفسهم، وذلك شِعار الصَّالحين مِن غير عارٍ ولا نقيصةٍ على أهل البصيرة.
          واعترض الإسماعيليُّ في قوله: (فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا) المعروف أنَّ السِّلق يُزرع ولا يُغرس، ولو استدلَّ بحديث محمَّد بن جعفر بن الزُّبير عن أبي حازمٍ كان واضحًا إذ فيه: ((كَانتْ لَنَا عَجُوزٌ تَزْرعُ السِّلق))، وفي لفظٍ: ((تُرْسِل إليَّ بِضَاعةً)). قال ابن مَسْلَمة: نخلٌ بالمدينة، فتأخذ مِن أصول السِّلْقِ فتطرَحُهُ في القِدْر، وتُكَرْكِرُ عليه حبَّاتٍ من شَعيرٍ.