التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من أين تؤتى الجمعة؟

          ░15▒ بَابُ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟
          لِقَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ} الآية [الجمعة:9]
          وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ، فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ. وَكَانَ أَنَسٌ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ
          وهذا التَّعليق رواه ابن أبي شيبة بنحوه كما سلف في باب الجمعة في القرى. [خ¦892]
          902- وذكر فيه حديث عَائِشَةَ قالت: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالعَوَالِيِّ.. الحديث.
          وهذا الحديث يأتي إن شاء الله في البيوع، [خ¦2071] وأخرجه مسلمٌ أيضًا عن أحمد بن عيسى بإسناده.
          ووقع في «أطراف خلفٍ» أنَّه رواه عن هارون بن عيسى، وهو غريبٌ، ولا أعلم في مشايخه من يُسمَّى بذلك. وقال الطَّرْقيُّ: أخرجه مسلمٌ عن أحمد بن عيسى وهارون الأيليِّ، وهو هارون بن سعيدٍ، ولا أعلم في أجداده عيسى، ورواه أبو داود عن أحمد بن صالحٍ.
          وشيخ البخاريِّ: أحمد، هو ابن عبد الله، كما ذكره أبو نعيمٍ، ثمَّ روى الحديث هو والإسماعيليُّ كطريق مسلمٍ: أحمد بن عيسى، كما سلف.
          وذكر الجَيَّانيُّ أنَّ البخاريَّ روى عن أحمد _يعني: غير مسمَّى_ عن ابن وهبٍ في كتاب الصلاة في موضعين، وقال: حدَّثنا أحمد، حدَّثنا ابن وهب. قال: ونسبه أبو عليِّ بن السَّكن في نسخةٍ فقال فيه: أحمد بن صالحٍ المصريُّ.
          وقال الحاكم أبو عبد الله: روى البخاريُّ في كتاب الصَّلاة في ثلاث مواضعٍ: عن أحمد، عن ابن وهبٍ. فقيل: إنَّه ابن صالحٍ المصريُّ. وقيل: ابن عيسى التُّسْتَريُّ. ولا يخلو أن يكون واحدًا منهما، فقد روى عنهما في «الجامع»، ونسبَهُما في مواضع.
          وذكر أبو نصرٍ الكَلَاباذيُّ قال: قال لي أبو أحمد: _يعني: الحاكم_ أحمد عن ابن وهبٍ في «الجامع»، هو ابن أخي ابن وهبٍ.
          قال الحاكم أبو عبد الله: مَن قال هذا فقد وهمَ وغلطَ، دليله أنَّ المشايخ الذين ترك البخاريُّ الرِّوايةَ عنهم في «الجامع» قد روى عنهم في سائر مصنَّفاته، كأبي صالحٍ وغيره، وليس له عن ابن أخي ابن وهبٍ روايةٌ في موضعٍ، فهذا يدلُّ على أنَّه لم يكتب عنه أو كتب عنه، ثمَّ ترك الرِّواية عنه أصلًا.
          وقال الكَلَاباذيُّ: قال ابن مَندَه: كلُّما قال البخاريُّ في «الجامع»: حدَّثنا أحمد عن ابن وهبٍ. فهو ابن صالحٍ، ولم يخرِّج عن ابن أخي ابن وهبٍ في «الصَّحيح»، وإذا حدَّث عن أحمد بن عيسى نسبه.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه من أوجهٍ:
          أحدها: وجهُ مناسبة الآية الباب ظاهرٌ، فقوله: (وَعَلَى مَنْ تَجِبُ) أي: إنَّها تجِبُ على كلِّ مؤمنٍ، ومفهومه: نفيه عمَّن لم يؤمن.
          وللوجوب شروطٌ محلُّ الخوض فيها كتب الفروع، وأوجبَها داودُ على العبيد، وهو قولٌ لمالكٍ، والمشهور خلافه، وفيه خلافٌ شاذٌّ في حقِّ المسافر.
          ثانيها: في ألفاظه: معنى: (يَنْتَابُونَ) يجيئون. والانتياب: المجيء يومًا، والاسم: النَّوب. وأصلُهُ ما كان من قريبٍ كالفرسخ والفرسخين.
          وقولها: (فَيَأْتُونَ فِي الغُبَارِ) يصيبُهُم الغبارُ والعَرَق، فيخرج منهم العرق. قال صاحب «المطالع»: كذا رواه الفَرَبريُّ، وحكاه الأَصِيليُّ عن النَّسَفيِّ، قال: وهو وهمٌ، والصَّواب: <فَيَأتُونَ في العباءِ، ويُصيُبهُمُ الغُبارُ، فَيَخرجُ مِنهمُ الرِّيحُ>. وقال: كذا هو عند القَابِسيِّ.
          قلت: وهو ما شرحه النَّووي في «شرحه» حيث قال: فيأتون في <العَباءِ>، هو بالمدِّ جمع عباءةٍ _بالمدِّ_ وعبايةٍ بزيادة ياءٍ لغتان مشهورتان.
          ثالثها: في أحكامه: اختلف العلماء في هذا الباب _أعني من كان خارج المصر_ فقالت طائفةٌ: تجِبُ الجمعة على من آواه اللَّيل إلى أهله، رُوي ذلك عن أبي هريرة وأنسٍ وابن عمر ومعاوية، وهو قول نافعٍ، والحسن، وعكرمة والحكم، والنَّخعيِّ، وأبي عبد الرَّحمن السُّلَميِّ، وعطاءٍ، والأوزاعيِّ، وأبي ثورٍ، حكاه ابن المنذر عنهم لحديث أبي هريرة مرفوعًا: ((الجُمُعةُ على مَن آواهُ اللَّيل إلى أهلِهِ))، رواه التِّرمذيُّ والبيهقيُّ وضعَّفاه.
          وعن أبي يوسف في روايةٍ: مِن ثلاثة فراسخ. وأخرى: إذا كان منزله خارج المصر. وعنه: إن شهدها وأمكنه المبيت في أهله تجِبُ. واختاره كثيرٌ مِن مشايخ الحنفيَّة، وعن أبي حنيفة: تجِبُ إذا كان يُجبى خراجها مع المصر.
          وفي «الذَّخيرة» للحنفيَّة في ظاهر الرِّواية: لا يجِبُ شهودها إلَّا على مَن سكن المصر والأَرْباض دون السَّواد، سواءٌ كان قريبًا مِن المصر أو بعيدًا عنها.
          وعن محمَّدٍ: إذا كان بينَه / وبين المصر ميلٌ أو ميلان أو ثلاثةٌ فعليه الجمعة، وهو قول مالكٍ واللَّيث.
          وفي «مُنيَة المفتي»: على أهل السَّواد الجمعةُ إذا كانوا على قَدْر فرسخٍ، هو المختار. وعنه: إذا كانوا أقلَّ من فرسخين تجِبُ. وعن معاذ بن جبلٍ: يجِبُ الحضور من خمسة عشر فرسخًا.
          وفي «المحيط» عن أبي يوسف: إذا سمع النِّداء. وفي المَرْغِينانيِّ: وقيل: منتهى صوت المؤذِّن. واعتبر الشَّافعيُّ سماع النِّداء إذا بلغه بشرط علوِّه مع الهدوء من طرفٍ يليه لبلد الجمعة، وبه قال ابن عمرٍو وابن المسيِّب وأحمد وإسحاق.
          وحكاه ابن بطَّالٍ عن مالكٍ أيضًا لحديث ابن عمرٍو يرفعُه: (الجمعةُ على مَن سمِعَ النِّداء)، ورُوي أيضًا موقوفًا. قال البيهقيُّ: الذي رفعَهُ ثقةٌ وله شواهد.
          قال ابن المنذر: يجب عند ابن المُنكَدِر وتبعه الزُّهريُّ في روايةٍ: من أربعة أميالٍ. وقال الزُّهريُّ أيضًا: ستَّة أميالٍ. وحكاه ابن التِّين عن النَّخعيِّ، وعن مالكٍ واللَّيث: ثلاثة أميالٍ، وقد سلف. ووجَّهه أنَّها نهاية ما يبلغه النِّداءُ على ما جُرِّب. وحكى أبو حامدٍ عن عطاءٍ: عشرة أميالٍ.
          واختلف أصحاب مالكٍ: هل مراعاة ثلاثة أميالٍ من المنار أو من طرف المدينة؟ فالأوَّل قاله القاضي أبو محمَّدٍ، والثَّاني قاله محمَّد بن عبد الحكم. قال مالكٌ: لأنَّ بين أبعدِ العوالي وبين المدينة ثلاثة أميالٍ.
          وسُمِّيت العوالي: لإشراف موضعها، وقال أحمد بن خلفٍ: العوالي من طرف المدينة. وليس بصحيحٍ. كما قال ابن التِّين، بل قباء مِن أدنى العوالي.
          وفي البخاريِّ عن أنسٍ: وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميالٍ.
          ونقل ابن بطَّالٍ عن الكوفيِّين: لا تَجِبُ إلَّا على أهل المصر، ومن كان خارجه فلا تجب عليه وإن سمع النِّداء.
          وعن حذيفة: ليس على من عَلَا رأسَ ميلٍ جمعةٌ.
          وقال المهلَّب: نصُّ القرآن دالٌّ على أنَّ الجمعة تَجِبُ على من سمع النِّداء وإن كان خارجَ المصر، وهذا أصحُّ الأقوال.
          قال ابن القصَّار: اعتلَّ الكوفيُّون لقولهم: إنَّ الجمعة لا تَجِبُ على من كان خارجَ المصر لأنَّ الأذان عَلَمٌ لمن لم يحضر، والأذان بعد دخول الوقت، ومعلومٌ أنَّ من يسمع على أميالٍ يأخذ في المشي فلا يلحق، فيُقال لهم معنى الآية: إذا قرُب وقت النِّداء لها بمقدار ما يدركها كلُّ ساعٍ إليها، وليس على أنَّه لا يجب السَّعي إليها إلَّا حين النِّداء.
          والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة، لقوله: (إنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُوْمَ لَا يُنَادِيْ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ) أي: قاربت الصَّباح، ومثله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] أي: قاربنَ. لأنَّه إذا بلغتْ آخِرَ أجلِها لم يكن له إمساكها.
          وفي الإجماع على أنَّ من كان في طرف المصر العظيم وإن لم يسمع النِّداء يلزمه السَّعي دليلٌ واضحٌ أنَّه لم يُرَد بالسَّعي حين النِّداء خاصَّةً، وإنَّما أُريد قربه.
          وأمَّا من كان خارجَ المصر إذا سمع النِّداء فهو داخلٌ في عموم قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} الآية [الجمعة:9]، ولم يخصَّ مَن في المصر أو خارجه، وأمَّا حديث الباب ففيه ردٌّ لقول الكوفيِّين: إنَّ الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر؛ لأنَّها أخبرت عنهم بفعلٍ دائمٍ: أنَّهم كانوا ينتابونَ الجمعة. فدلَّ على لزومها عليهم.
          قال محمَّد بن مَسْلَمة: وممَّا يبيِّن أنَّ الجمعة لازمةٌ لأهل العوالي إذنُ عثمان لهم يوم العيد في الانصراف، ولولا وجوبها عليهم ما أذن لهم، وما رُوي عن أنس السالف، فالفرسخ: ثلاثة أميالٍ. ولو كان لازماً عندَه شهودها لِمن كان على ستَّة أميالٍ لَمَا ترَكَها بعض المرَّات.
          قال ابن التِّين: وفعل أنسٍ يردُّ على النَّخعيِّ في اعتبار ستَّة أميالٍ؛ لأنَّ الفرسخ: ثلاثة أميالٍ وزيادةٌ يسيرةٌ، وإن كان خارج المصر.
          وقوله: (كَانَ أَنَسٌ أَحْيَانًا يُجْمِّعُ) يعني: أحيانًا يأتي المصر وأحيانًا لا يأتي، لأنَّ فرسخين كثيرٌ، فإذا أراد الفضل أتى، وإن ترك كان في سعةٍ.
          وقول عائشة: (كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ) ليس ممَّا يمنع تأكُّد الغسل؛ لأنَّ بعض السُّنن تُترك لسببٍ كما في الرَّمَل.