التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاستماع إلى الخطبة

          ░31▒ بَابُ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الخُطْبَةِ
          929- ذكر فيه حديث أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: (إِذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ وَقَفَتِ المَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، واسْتَمَعُوا الذِّكْرَ).
          الشَّرح: هذا الحديث ذكره البخاريُّ أيضًا في باب: بَدْءُ الخلق كما ستعلمه، بزيادة أبي سَلَمة مع الأغرِّ، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          و(الأَغَرِّ): اسمه: سلمان، جُهَنيٌّ مولاهم القاصُّ المدنيُّ، وأصله مِن أَصبَهان، اتَّفقا عليه، وانفرد مسلمٌ بالأغرِّ بن سُلَيك بن حَنْظَلة أبو مسلمٍ الكوفيُّ، روى أيضًا عن أبي هريرة وغيره.
          وهؤلاء غيرُ الحفظة كما نبَّه عليه ابن التِّين.
          أمَّا فقه الباب: فالإنصات لسماع الخطبة مطلوبٌ بالاتِّفاق. والجديد الصَّحيح مِن مذهب الشَّافعيِّ أنه لا يحرُم الكلام، ويُسنُّ الإنصات، وبه قال عُرْوة بن الزُّبير وسعيد بن جبيرٍ والشَّعبيُّ والنَّخعيُّ، والثَّوريُّ وداود. والقديم أنَّه يحرُم، وبه قال مالكٌ والأوزعيُّ وأبو حنيفة وأحمد.
          وقال ابن بطَّالٍ: استماع الخطبة واجبٌ وجوب سنَّةٍ عند أكثر العلماء، ومنهم مَن جعله فريضةً، ورُوي عن مجاهدٍ أنَّه قال: لا يجب الإنصات للقرآن إلَّا في موضعين في الصَّلاة، والخطبة. ثمَّ نقل عن أكثر العلماء أنَّ الإنصات واجبٌ على مَن سمعها ومن لم يسمعها، وأنَّه قول مالكٍ.
          وقد قال عثمان: للمنصت الذي لا يسمع مِن الأجر مثل ما للمنصت الذي يسمع. وكان عُرْوة لا يرى بأسًا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة، ذكره ابن المنذر.
          وقال إبراهيم: إنِّي لأقرأ حِزْبي إذا لم أسمع الخطبة.
          وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة.
          وقال ابن عبد البرِّ: لا خلاف علمتُهُ بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات لها على مَن سمعها، واختلف فيمن لم يسمعها.
          قال: وجاء في هذا المعنى خلافٌ عن بعض التَّابعين، فرُوي عن الشَّعبيِّ وسعيد بن جبيرٍ والنَّخعيِّ وأبي بُرْدة أنَّهم كانوا يتكلَّمون والإمام يخطب إلَّا في حين قراءة القرآن في الخطبة خاصَّةً لقوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204].
          وفعلهم مردودٌ عند أهل العلم، وأحسنُ أحوالهم أنَّهم لم يبلغهم الحديث في ذلك، وهو قوله: ((إذا قَلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِت..)) الحديثَ. لأنَّه حديثٌ انفرد به أهل المدينة، ولا علمَ لمتقدِّمي أهل العراق به.
          وقال ابن قدامة: يجب الإنصات ويحرُم الكلام على الحاضرين. وكره ذلك عامَّة أهل العلم، منهم مالكٌ وأبو حنيفة والأوزاعيُّ، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحرُم الكلام.
          قال: وكان سعيد بن جبيرٍ وإبراهيم بن مهاجرٍ وأبو بُرْدَة والنَّخعيُّ والشَّعبيُّ يتكلَّمون والحجَّاج يخطب. وقال بعضهم: إنَّما لم نُؤْمَر أن ننصت لهذا.
          واختلف العلماء في وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة: خروج الإمام يقطع الكلام والصَّلاة جميعًا لقوله: (فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ).
          وقالت طائفةٌ: لا يجب الإنصات إلَّا عند ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، هذا قول مالكٍ والثَّوريِّ وأبي يوسف ومحمَّدٍ والأوزاعيِ والشَّافعيِّ، حجَّتهم قوله صلعم: ((وَيُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ)) ذكره في باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب بعد هذا.
          وقال صاحب «البداية» من الحنفيَّة: إذا خرج الإمام يوم الجمعة. أي: صعد على المنبر ترك النَّاس الصَّلاة والكلام حتَّى يفرغ من خطبته، وعندهما: لا بأس بالكلام قبل الشُّروع فيها، وإذا نزل، قبل أن يكبِّر.
          وفي «جوامع الفقه» / عند أبي يوسف: يُباح الكلام عند جلوسه إذا سكتَ. وعند محمَّدٍ: لا يُباح. وفي «جوامع الفقه» أنه ينصت ولا يقرأ، ولا يصلِّي نَفْلًا، ولا يشتغل بالذِّكر وغيره، ويُكره السَّلام وردُّه، وتشميتُ العاطس، والأكلُ والشَّرب.
          قال: وقال الأوزاعيُّ: إنْ شرِب عند الخطبة بَطُلَت جمعتُهُ. وهو قول أحمد، ذكرهما ابن المنذر، وروى ابن محمَّد عن أبي يوسف أنَّهم يردُّون السَّلام ويشمِّتون، وهل يردُّ بعد الفراغ من الخطبة؟ عند محمَّد: يردُّه، وعند أبي يوسف: لا. والتَّشميتُ مثله، وعن أبي حنيفة: يردُّ في قلبه ولا يردُّ بلسانه.
          وقال الحسن والنَّخعيُّ والشَّعبيُّ والحكم وحمَّادٌ والثَّوريُّ وأحمد وإسحاق: يردُّ ويُشمِّت. وقال قتادة: يردُّ ويُسمِعه.
          وقال مالكٌ: لا يُشمِّت سرًِّا ولا جهرًا، ولا يردُّ السَّلام، ولا يشرب الماء، ويسكتُ عن التَّسبيح والإشارة ولا يَحْصِبُهم.
          قال: واختلف المشايخ فيما إذا لم يتكلَّم بلسانه، ولكنَّه أشار بيده، أو أومأ برأسه، أو بعينيه بنعم أو لا، أو رأى منكرًا، فمنهم مِن كره ذلك كفعل اللِّسان، والصَّحيح أنَّه لا بأس به. وفي «الذَّخيرة»: ويُكره الكَلام في وقت الخطبة.
          ومن العلماء مَن قال: كان السُّكوت لازمًا في حقِّهم لأنَّه صلعم كان يُسْمِعُهُم ما يَنزل عليه من القرآن، بخلاف اليوم، لأنَّه قد يكون في القوم مَن هو أعلم مِن الإمام وأورع منه، فلا يلزمه استماع خطبة مَن هو دونه، ومنهم من قال: ما دام في الحمد والثَّناء على الله تعالى والوعظ للنَّاس فعليهم أن يستمعوا، فإذا أخذَ في مدح الظَّلَمة والدُّعاء لهم فليس عليهم أنْ يستمعوا.
          وكان الطَّحاويُّ يقول: على القوم أن يُنْصِتوا، فإذا بلغ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] فحينئذٍ يَجِبُ على القوم أن يصلُّوا عليه. والذي عليه عامَّة المشايخ أنَّ عليهم أن ينصتوا مِن أوَّلها إلى آخرها.
          وقال أبو حنيفة ومحمَّدٌ: إذا ذكر الله والرَّسول استمعوا، ولم يذكروا الله بالثَّناء عليه، ولم يصلُّوا على نبيِّه.
          قال ابن المنذر: هذا أحبُّ إليَّ، وهو قول الثَّوريِّ. وعن أبي يوسف: يصلُّون عليه سرًّا، وهو قول مالكٍ وأحمد وإسحاق، وهذا كلُّه في حقِّ القريب مِن الإمام، وقال في «الذَّخيرة»: لا رواية في البعيد. وأشار محمَّد بن مَسْلمة إلى السُّكوت، وكان محمَّدٌ هذا ونُصير بن يحيى يقرآن القرآنَ، وهكذا رواه حمَّادٌ عن إبراهيم.
          وأمَّا دراسة الفقه وكتابته والنَّظر فيه فمِنَ الأصحاب مَن أباحه، ورُوي عن أبي يوسف. وكان الحكم بن زُهَيرٍ الحنفيُّ الكبير ينظر في الفقه، وكان مولعًا بالتَّدريس.
          وفي «المَرْغِينَانيِّ»: اختلفوا في التَّسبيح والتَّهليل للنَّائي عن الإمام، وأجمعوا أنَّه لا يتكلَّم بكلام النَّاس، وأمَّا قراءة القرآن والذِّكر والفقه فقال بعضهم: الاشتغال بقراءة القرآن والذِّكر أفضلُ من الإنصات. وقال بعضهم: الإنصات أفضل.
          وأمَّا دراسة العلم والنَّظر في كتبه وكتابته، فمِنَ الأصحاب مِن كَرِهَ ذلك، ومنهم مَن قال: لا بأس به إذا كان لا يسمع الخطبة.
          وقال ابن قُدامة: لا فرق بين البعيد والقريب، وللبعيد أن يقرأ القرآن، ويذكر الله ويصلِّي على نبيِّه، ولا يرفع صوته.
          قال أحمد: لا بأس بالصَّلاة عليه سرًّا. قال: ورخَّص له في القراءة والذِّكر عطاءٌ وسعيد بن جبيرٍ والنَّخعيُّ والشَّافعيُّ، وليس له أن يرفع صوته ولا يُذاكِر في الفقه ولا يصلِّي ولا يجلس في حلقةٍ. وذكر ابن عقيلٍ أنَّ له المذاكرة في الفقه، وصلاة النَّافلة.
          وأمَّا تفاريع مذهب الشَّافعيِّ وتحريره وفاقًا وخلافًا، فلو سردناه هنا طال وخرج عن موضوعه، وقد حرَّرناه في «شرح المنهاج» وغيره فليُرَاجع منه.
          قال أبو محمَّد بن حزمٍ: وفرضٌ على كلِّ من حضر الجمعة _سمع الخطبة أم لم يسمع_ أنْ لا يتكلَّم مدَّة خطبة الإمام بشيءٍ إلى المنتهى إلَّا التسليم وردُّ السَّلام، وحمدُ الله إنْ عَطَس، ويُشمَّت إن حمد الله، والردُّ على المشمِّت، والصَّلاة على رسول الله صلعم إذا أمر الخطيب بالصَّلاة عليه، والتَّأمين على دعائه، وابتداء مخاطبة الإمام في الحاجة، ومجاوبة الإمام فيمن ابتدأه الإمام بالكلام في أمرٍ ما فقط، ولا يحلُّ أن يقول أحدٌ حينئذٍ لمن يتكلَّم: أنصتْ، ولكن يشير إليه أو يَغْمِزهُ أو يَحْصِبُهُ.
          ومن تكلَّم بغير ما ذكرنا ذاكرًا عالمًا بالنَّهي فلا جمعة له، فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله ولا مِن الدُّعاء المأمور به فالكلام مباحٌ حينئذٍ، وكذلك إذا جلس بين الخطبتين وبين الخطبة وابتداء الصَّلاة، وهذا جمودٌ منه كعوائده.
          استدلَّ من قال بالاستماع بقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] وبهذا الحديث. وفي استماع الملائكة الخطبة حضٌّ على الاستماع لها والإنصات.
          وفي قوله: (فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طُوِيَت الصُّحُفُ، وَاسْتَمَعُوا الخُطْبَةَ) دلالةٌ على أنَّه لا عمل إذا خرج الإمام إلَّا ذلك لطيِّ الصُّحف فيما عداه. ونهى عن الكلام عثمانُ وابن عمر.
          وقال ابن مسعودٍ: إذا رأيته يتكلَّم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالحصى، وبالحديث الآتي _إن شاء الله_: (فَقَدْ لَغَوْتَ) وبما رُوي عن أُبيِّ بن كعبٍ أنَّه صلعم قرأَ يومَ الجُمُعة {تَبَارَكَ} فذكَّرنا بأيَّام الله، وأبو الدَّرداء يغمزني، فقال: متى أُنزِلت؟ فإنِّي لم أسمعها إلَّا الآنَ، فأشار إليه أن اسكتْ، فلمَّا انصرفوا قال: سألتك: متى أُنزلت هذه السُّورة؟ فلم تخبرني. قال أٌبيٌّ: ليس لك من صلاتك اليوم إلَّا ما لغوتَ. فذهب إلى رسول الله صلعم فَذَكَر له ذلك، وأخبره بما قالَ، فقال صلعم: ((صَدقَ أُبيُّ))، رواه أحمد وابن ماجه والبيهقيُّ، وقال: إسناده صحيحٌ.
          وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة نحوه، وعن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((مَن تكلَّمَ يَومَ الجُمُعة والإمامُ يَخْطُبُ فَهُو كَمَثلِ الحِمَار يَحْمِلُ أَسْفَارًا))، رواه ابن أبي خَيثَمة.
          وذكر ابن حزمٍ أنَّ ثلاثةً من الصَّحابة يُبْطِلون صلاة مَن تكلَّم عامدًا في الخطبة: أُبيٌّ، وابن عمر، وابن مسعودٍ. قال: وبه نقول، وعليه إعادتها في الوقت لأنَّه لم يصلِّها.
          وقالوا: لأنَّ الخطبة بدلٌ من الرَّكعتين، فحرُم فيهما الكلام كالصَّلاة.
          استدلَّ من قال بالإباحة بالأحاديث الصَّحيحة المشهورة أنَّه صلعم تكلَّم في خطبته يوم الجمعة مرَّاتٍ.
          وبحديث أنسٍ: ((دخلَ رجلٌ / المسجدَ والنَّبيُّ صلعم على المنبر يومَ الجمعةِ فقال: يا رسولَ اللهِ، متى السَّاعةُ؟ فأشار إليه النَّاس أنِ اسكتْ، فسألهُ ثلاث مرَّاتٍ، كلُّ ذلك يُشِيرون إليه أنِ اسكتْ، فقال له صلعم: ويحكَ، ما أعْددتَ لها؟)) رواه البيهقيُّ بإسناد صحيحٍ.
          وعن أنسٍ: ((بينما النَّبيُّ صلعم يخطُبُ في يومِ جُمُعةٍ إذ قام أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله، هَلَكَ المالُ..)) الحديث، أخرجاه.