التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل الجمعة

          ░4▒ بَابُ فَضْلِ الجُمُعَةِ
          881- ذكر حديثَ أبي هُرَيرَةَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً) الحديث.
          أخرجه مسلمٌ والجماعة، ويأتي في الباب أيضًا.
          والكلام عليه من أوجهٍ:
          أحدها: قوله: (غُسْلَ الجَنَابَةِ) كذا رواه الجمهور، ولابن مَاهَان: ((غُسْلُ الجُمُعة)) والمراد: غُسْلًا كغُسْل الجنابة في صفاته، وأبعَدَ من قال: إنَّه حقيقةً حتَّى يُستحبَّ أن يواقع زوجته ليكون أغضَّ لبصره وأسكن لنفسه، وإن كان يؤيِّده حديث أوسٍ في السُّنن الأربعة: ((من غسَّل يومَ الجمعة واغتسلَ...)) إلى آخره، على تفسير من فسَّر: (اغْتَسَلَ) بغُسْل الجنابة، والأشبهُ فيه حَمْلُ غيرِهِ على الغُسْل بالحثِّ والتَّرغيب، / وأبعد من قال: إنَّ المراد غسل ثيابه، واغتسل بجسده، حكاه ابن التِّين.
          ثانيها: المراد بالرَّواح هنا: الذَّهاب أوَّل النَّهار. وقد نبَّه عليه ابن حبَّان في «صحيحه»، وقال: في الخبر دليلٌ عليه ضدُّ من قال: لا يكون إلَّا بعد الزَّوال. وهذا مذهب الكوفيِّين والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ، وجماهير أصحابه، وأحمد وابن حبيبٍ المالكيِّ ومحمَّد بن إبراهيم العَبدَريِّ. وذهب مالكٌ وكثيرٌ من أصحابه والقاضي الحسين وإمام الحرمين أنَّ المراد بالسَّاعات هنا: لحظاتٌ لطيفةٌ بعد الزَّوال، وكره مالكٌ التَّبكير في أوَّل النَّهار. والأصحُّ عند أصحابنا أنَّ أوَّلها مِن طلوع الفجر لا من طلوع الشَّمس، ونقل ابن بطَّالٍ مقابله عن الكوفيِّين، وبسطنا الكلام عليه في «شرح العُمدَة» فليُراجع منه.
          ثالثها: معنى (قَرَّبَ): تصدَّق. والبَدَنة: الواحدةُ من الإبل والبقر والغنم، وخصَّها جماعةٌ بالإبل، وهو المراد هنا، وتعجَّب مالكٌ ممَّن قال: لا تكون البَدَنة إلَّا مِن الإناث. ونقله ابن التِّين عن الشَّافعيِّ، وأَبْعَدَ مَن قال: إنَّ الغنم لا تُسمَّى هديًا.
          والبَقَرَةُ: تُطلق على الذَّكر والأنثى، الأهليِّ والوحشيِّ، ووُصف الكبش بالأقرن، لكماله به، ففيه فضيلةٌ على الأجمِّ، والدّجاجة مثلَّثة الدال، وحَضر بفتح الضاد أفصحُ من كسرها.
          رابعها: في فقههٌ:
          فيه: الحثُّ على التَّبكير إلى الجمعة، وأنَّ مراتب الناس في الفضيلة فيها وفي غيرها بحسب أعمالهم، وأنَّ القُرْبان والصَّدقة تقع على القليل كالكثير، وقد جاء في النَّسائيِّ بعد الكبش بطَّةٌ ثمَّ دجاجةٌ ثمَّ بيضةٌ، وفي أخرى: دجاجةٌ ثمَّ عصفورٌ ثمَّ بيضةٌ، وإسنادهما صحيحٌ.
          وفيه: إطلاق القُرْبان على الدجاجة والبيضة، والمراد: الصَّدقة. وقيل: هو محمولٌ على حُكْم ما تقدَّمه، كقولك: أكلتُ طعامًا وشرابًا، وعلفتها تِبنًا وماءً باردًا.
          وفيه: أنَّ التَّضحيةَ بالإبل أفضلُ مِن البقر؛ لأنَّه صلعم قدَّمها أوَّلًا وتلاها بالبقرة، وأجمعوا عليه في الهدايا، واختلفوا في الأضحية، فمذهب الشَّافعيِّ وأبي حنيفة والجمهور أنَّ الإبلَ أفضلُ ثمَّ البقر ثمَّ الغنم كالهدايا، ومذهب مالكٍ أنَّ الغنمَ أفضلُ ثمَّ البقر ثمَّ الإبل.
          قالوا: لأنَّه صلعم ضحَّى بكبشين، وهو فِداء إسماعيل. وحُجَّة الجمهور حديث الباب مع القياس على الهدايا، وفعْلُهُ لا يدلُّ على الأفضليَّة بل على الجواز، ولعلَّه لمَّا لم يجد غيره، كما ثبتَ في «الصَّحيح» أنَّه صلعم ضحَّى عن نسائه بالبقر.
          الخامس: الملائكة المذكورون غيرُ الحفظة، وظيفتهم كتابةُ حاضريها، قالَه المازريُّ ثمَّ النَّوويُّ.
          وقال ابن بَزِيزة: لا أدري هم أو غيرهم.
          وقوله: (فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) لا تنافي بينَه وبين الرِّواية الأخرى في «الصَّحيح»: ((فإذا جلَسَ الإمامُ طَووا الصُّحفَ))؛ لأنَّ بخروج الإمام يحضرون مِن غير طيٍّ، فإذا جلس على المنبر طووها. وفي رواية لابن خزيمة: ((على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجِدِ يومَ الجُمُعةِ مَلَكان يَكْتُبَانِ الأوَّلَ فالأوَّلَ)) الحديثَ. وفي حديث عبد الله بن عمرٍو: ((ورُفعتِ الأقلامُ فتقولُ الملائكةُ بعضُهُم لبعضٍ: ما حَبس فلانًا؟ فتقول الملائكة: اللهُمَّ إن كان ضالاَّ فاهدهِ، وإن كان مريضًا فاشفِه، وإن كان عائلًا فأغنِهِ)).
          وفي «الدِّيباج» للخُتُّليِّ من حديث عائشة مرفوعًا: ((الأوَّلَ فالأوَّلَ حتَّى يكتبانِ أربعينَ ثمَّ يطويان الصُّحفَ، ويقعدانِ يَسْتَمعان الذِّكرَ)).
          والمراد بالذِّكْر: الخطبة، وقد بيَّن ذلك في حديث ابن المسيِّب عن أبي هريرة، وقال: يستمعون الخطبة، فمن أتى والإمام في الخطبة فاته الكتابة في الصُّحف، وله أجرُ المدرِك لا المسارِع.