التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخطبة على المنبر

          ░26▒ بَابُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَرِ
          917- (قَالَ أَنَسٌ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى المِنْبَرِ).
          وعن أبي حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّ رِجَالًا أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَقَد امْتَرَوْا فِي المِنْبَرِ.. الحديث.
          918- وعن مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، قَالَ: (كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلعم...) الحديث.
          قال سُلَيْمَانُ: عَنْ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ: سَمِعَ جَابِرًا.
          919- وعن ابن عُمَرَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ عَلَى المِنْبَرِ فقال: (مَنْ جَاءَ إِلَى الجُمُعَةِ، فَلْيَغْتَسِلْ).
          الشَّرح: أمَّا حديث أنسٍ فذكره بعدُ مسندًا في حنين الجِذْع، وغيره. وحديث سهلٍ سلف في باب: الصلاة في السُّطوح والمنبر. [خ¦377]
          وفي إسناده: (يَعْقُوبُ بنُ عَبدِ الرَّحْمَنِ القَارِيُّ): بتشديد الياء المثنَّاة تحتُ، مِن القارة، حليف بني زُهرَة، مدنيٌّ، وَلِيَ الإسكندريَّة، ومات بها سنة إحدى وثمانين ومائةٍ، اتَّفقا عليه.
          و(سَهْلَ بنَ سَعْدٍ): مات سنة ثمانٍ وثمانين، أو سنة إحدى وتسعين، وهو آخر من مات بالمدينة من الصَّحابة على قولٍ.
          وحديث جابرٍ يأتي في علاماتٍ النُّبوَّة أيضًا أتمَّ منه. وسلف في الاستعانة بالنَّجَّار والصُّنَّاع [خ¦449] من طريقٍ آخر عن جابرٍ بنحوه، وتعليق سليمان يأتي مسندًا في الباب المذكور عن يحيى عن حفصٍ، وذكر أبو مسعودٍ وخلف أنَّ سليمان هذا هو ابن بلالٍ. قالا: وقد روى هذا الحديث عن يحيى عن حفصٍ سليمانُ بن كثيرٍ العبديُّ، كما قال ابن بلالٍ، ولم يذكر سماع بعضهم من بعضٍ، كذا ذَكرا، والذي ذكره الدَّارقطنيُّ أنَّ سليمان بن كثيرٍ رواه عن يحيى بن سعيدٍ عن ابن المسيِّب عن جابرٍ، قال أبو مسعودٍ: وإنَّما لم يسمِّ البخاريُّ ابنَ أنسٍ لأنَّ محمَّد بن جعفرٍ يقول فيه: عن يحيى عن عبيد الله بن حفص بن أنسٍ. فقال البخاريُّ: عن ابن أنسٍ. ليكون أقربَ إلى الصَّواب. كذا قال أبو مسعودٍ.
          وقد رواه أبو نعيمٍ من طريق البخاريِّ وقال: عن يحيى عن عبيد الله بن حفص بن أنسٍ أنَّه سمع جابرًا، والظَّاهر أنَّ الاختلاف من يحيى، فتارةً يقول عن حفص بن عبيد الله، وتارةً يعكس، يدلُّ على ذلك أنَّ الإسماعيليَّ رواه من طريق يعقوب بن محمَّدٍ، حدَّثنا عبد الله بن يعقوب ابن إسحاق _مولى معاوية_ حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدَّثني عبيد الله بن حفص بن أنسٍ.
          قال يعقوب: وإنَّما هو حفص بن عبيد الله بن أنسٍ، ولكن هكذا حدَّثنا عن جابرٍ، فقد وافق محمَّد بن جعفرٍ يعقوبَ هذا، وكذا سويد بن سعيدٍ. قال الدَّارقطنيُّ: وهو الصَّواب.
          قال الحُمَيديُّ في «جمعه»: / ليس لابن أنسٍ عن جابرٍ في «الصَّحيح» إلَّا هذا الحديثَ. قال: وقد اختلف الرُّواة في اسمه، فقيل: حَفْص بن عُبَيد الله. وقيل عكسه. وقال البخاريُّ في «تاريخه»: قال بعضهم: عبيد الله بن حفصٍ. ولا يصحُّ.
          وفي نسخة أبي ذرٍّ: <حَفْص بن عبد الله> وصوابه عبيد الله بالتَّصغير.
          وحفصٌ هذا روى له البخاريُّ ومسلمٌ، روى عن جدِّه وجابرٍ وابن عمر وأبي هريرة.
          قال أبو حاتمٍ: لا يثبتُ له السَّماع إلَّا من جدِّه، كذا قال، وهو في البخاريُّ عن جابرٍ في علامات النُّبوَّة مُصرَّحًا به.
          وأمَّا حديث ابن عمر فسلف من رواية مالكٍ عن نافعٍ عنه، وأخرجه مع البخاريِّ التِّرمذيُّ والنَسائيُّ.
          إذا تقرَّر ذلك: فالعِشارُ في حديث جابرٍ بكسر العين وهي: النُّوق الحوامل. قاله في «المطالع». وقال الجوهريُّ: هي جمع عُشَراء، وهي النَّاقة التي أتت عليها من يوم أُرسل عليها الفَحْلُ عشرةَ أشهرٍ، وزال عنها اسم المخاض، ثمَّ لا يزال ذلك اسمها حتَّى تضعَ وبعدما تَضَعُ أيضًا.
          وقيل: هي النُّوق التي وُضع بعضها وبعضُها بعد لم يضَعْ. وقال الدَّاوديُّ: هي التي معها أولادها.
          وقال الخطَّابيُّ: هي التي قاربت الولادة، يُقال: ناقةٌ عُشَراء ونوقٌ عِشارٌ، على غير قياسٍ.
          ونقل ابن التِّين أنَّه ليس في الكلام فُعَلاء على فعالٍ غير نُفُساء وعُشَراء وتُجمع على عَشراوات ونَفساوات، والصَّوت المذكور، مثله بأصواتها عند فِراق أولادها.
          والجِذْع أصل النَّخل، ولمَّا وضع يدَه عليه سَكَنَ حِسُّه، وجاء في روايةٍ: ((لَوْ لَمْ أَفْعَل ذلكَ حنَّ إلى قِيَامِ السَّاعة)).
          وذكر البخاريُّ في هذا الباب الأحاديثَ الثَّلاثة، وهي دالَّةٌ على ما بوَّب له، وهو الخطبة على المنبر، وهو إجماعٌ، وسببه أنَّه أبلغُ في الإعلام، وأعظمُ في الوقع لأجل المشاهدة، ويُستحبُّ أن يكون على يمين المحراب مستقبلَ القبلة، فإن لم يكن منبرٌ، فموضعٌ عالٍ، وإلَّا فإلى خشبةٍ للاتِّباع، فإنَّه صلعم كان يخْطِب إلى جِذْعٍ قبل اتِّخاذه، فلمَّا صُنع تحوَّل إليه كما ساقه في الباب.
          ويُكره المنبر الكبير جدًّا الذي يضيِّق على المصلِّين إذا لم يكن المسجد متَّسعًا، وسلف في باب: الصَّلاة في السُّطوح والمنبر الكلام عليه وعلى من عَمِله ومن أيِّ شيءٍ كان، فراجعه. [خ¦377]
          وفيه عَلَمٌ عظيمٌ من أعلام نبوَّته، ودليلٌ على صِحَّة رسالته، وهو حنينُ الجماد، وذلك بأنَّ الله تعالى جعل للجِذْع حياةَ حنَّ بها، وهذا من باب الإفضال من الرَّبِّ جلَّ جلاله الذي يُحي الموتى بقوله: كنْ.
          وذكر ابن العربيِّ في كتابه «أنوار الفجر» _وذكر فيه ألفَ معجزةٍ لنبيِّنا وأنَّها على قسْمَين: منها ما هو في القرآن وهو تواترٌ، ومنها ما نُقل آحادًا، ومجموعها خَرق العادة على يديه على وجهٍ لا ينبغي إلا لنَبيٍّ يتحدَّى أولوليٍّ تكرمةً له_ إنَّ حنينَ الجِذْع اليابس وأنينَه أغربُ من اخضراره وإثماره، فإنَّ الإثمار والاخضرار يكونان فيه بصفةٍ، والحنين والأنين لا يكونان في جنسه بحالٍ، وإنَّما حنَّت على فَقْدِ ما كانت تأنسُ به مِن الذِّكر، وخُصَّت به من الشَّرف والبركة.
          وفيه كلام ما لا يُعرف له كلامٌ من الجمادات وشبهها، إذا أتانا ذلك مِن طريق النُّبوَّة كانت هي آيةً معجزةً أراد الله تعالى أن يُريها عباده ليزدادوا إيمانًا، وما جرى على مجرى الإعجاز فهو خرق العادات، وأمَّا نحن بيننا فلا يجوز كلام الجمادات إلينا، كذا قاله ابن بطَّالٍ في البيوع في باب: النَّجَّار، ويجوز أن يقع ذلك منَّا على وجه الكرامة، فما كان للنَّبيِّ معجزةً جاز أن يكون للوليِّ كرامةً.
          وحكى ابن التِّين عن ابن القزَّاز أنَّ فيه ردًّا على القَدَريَّة لأنَّ الصِّياح ضربٌ من الكلام، وهم لا يُجِيزون الكلام إلَّا ممَّن له فمٌ ولسانٌ. وفي «شرح ابن بطَّالٍ»: إذا كان الخليفة هو الذي يخطب فسنَّته أن يجلس على المنبر إذا خطب، فإن كان غيره قام إن شاء على المنبر أو على الأرض.
          قال مالكٌ: ومن لا يرقى بأعلى المنبر عندنا فجلُّهم يقوم عن يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه، وكلٌّ واسعٌ. ورُوي أنَّ الصِّدِّيق نزل بعد النَّبيِّ صلعم درجةً من المنبر تواضعًا منه، ولم يرَ نفسه أهلًا لذلك الموضع، وكذلك فعل عمر، نزل بعده فكان يخطب على الأولى، وكان المنبر مِن ثلاث درجاتٍ.
          فرعٌ: جماعة الفقهاء على أنَّ الخطبة من شرط الجمعة لا تصحُّ إلَّا بها، ومتى لم يخطب الإمام صلَّى أربعًا، وشذَّ الحسن فقال: تجزئهم جمعَتُهُم خَطَبَ الإمام أو لم يخطب، ذكره ابن المنذر عنه، وذكر عبد الوهَّاب أنَّه قول أهل الظَّاهر، وحكاه ابن الماجِشُون عن ابن أبي زيدٍ عن مالكٍ، وشارح «الرسالة» عن عبد الملك، ويردُّ قولهم الاتِّباع فيما نقله الكافَّة عن الكافَّة، ومن لا يجوز السَّهو عليه، ولو كانت الجمعة تجزئ بغير خطبةٍ لبيَّنه.
          وقد قال الفاروق: إنَّما قُصِّرت الصَّلاة من أجل الخطبة.
          وقال سعيد بن جبيرٍ: إنَّ الخطبة جُعلت مكان الرَّكعتين.
          فرعٌ: من شرط صحَّتها إسماعُ أربعين كاملين خلافًا لأبي حنيفة.
          تنبيهاتٌ: أحدها: ادَّعى بعضهم أنَّ حديث سهلٍ: (أَعْوَادًا، أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ) يعارض حديث جابرٍ: ((وكان جِذعٌ يقومُ إليه))، ولا تعارض عندي، فإنَّ المراد بالجلوس الأوَّل القيام. وحمل بعضهم حديث سهلٍ في غير الجمعة لِوعظٍ أو تعليمٍ، وحديث جابرٍ فيها، وذكره ابن بطَّالٍ وابن التِّين، وليس بطائلٍ، وأيَّده ابن بطَّالٍ بأنَّه صلعم لم يُحفظ عنه أنَّه خطب للجمعة قطُّ إلَّا قائمًا.
          وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] أي: قائمًا تخطب، قال: ويؤيِّد هذا حديث ابن عمر، وقد ترجم له باب: الخطبة قائمًا كما ستعلمه.
          ثانيها: قيل: إنَّ المنبر المقامُ الذي ذكر الله تعالى، وصنعه ليراه أقصى مَن حضره ويسمع كلامه، ويكون ذلك سُنَّةً لأمَّته ليسمع موعظته وليتأهَّب به ولتكون الصَّلاة أوَّل ما تُفعل عليه، وذلك مستحبٌّ أن يفعل في كلِّ جديدٍ، وصلاته على المنبر شكرًا لله تعالى وتواضعًا. وكونها فوقَه يحتمل أن يكون للارتفاع يسيرًا، ولا يعلَّل هنا بالكِبر لأنَّه ليس من شأنه، ونزوله وصعوده احتَمَل للتَّعليم، قال ابن التِّين: والأشبه أنَّ ذلك له خاصَّةً، وجوَّزه بعضهم إذا كان معه بعض المأمومين. وصلَّى عمر بن عبد العزيز على أرفع ممَّا عليه أصحابه، وليس للمنع وجهٌ إذا لم يردِ التكبُّر.