التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأذان يوم الجمعة

          ░21▒ بَابُ الأَذَانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ
          912- ذكر فيه حديث السَّائبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ: (كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ، وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ).
          وترجم له باب: المؤذِّن الواحد يوم الجمعة، وزاد فيه عن السَّائب قال: ولم يكن للنَّبيِّ صلعم مؤذِّنٌ غير واحدٍ، وكان التَّأذين حين يجلس الإمام على المنبر. وذكره أيضًا في باب: الجلوس على المنبر وموضعين آخرين من الباب ويأتي في الاعتصام، وهو من أفراده، وأخرجه الأربعة وفي لفظٍ له: أَمَرَ عثمانُ بالأذان الثَّالث فأذَّن به على الزَّوراء، فثبت الأمر على ذلك. وفي لفظٍ: أمر عثمان بالأذان الثَّاني.
          وللشَّافعيِّ: حدَّثنا بعض أصحابنا عن ابن أبي ذئبٍ، وفيه: ثمَّ أحدث عثمان الأذان الأوَّل على الزَّوراء.
          وللنَّسائيِّ عن السَّائب: كان بلالٌ يؤذِّن إذا جلس رسول الله صلعم على المنبر يوم الجمعة فإذا نزل أقام، ثمَّ كان كذلك في زمن أبي بكرٍ وعمر. ولأبي داود: كان يؤذِّن بين يدي رسول الله صلعم على باب المسجد وأبي بكرٍ وعمر.
          ولابن خُزَيمة عن السَّائب: ((كان النِّداءُ الذي ذَكَرهُ اللهُ في القرآن يومَ الجُمُعةِ إذا خَرجَ الإمامُ وإذا قَامتِ الصَّلاة، في زمنِ رسولِ اللهِ صلعم وأبي بكرٍ وعمر، حتَّى كان عثمانُ، فَكَثُر النَّاس، فأمر بالنِّداء الثَّالثِ)).
          وفي روايةٍ له: ((كان الأذانُ على عَهْد رسولِ الله صلعم وأبي بكرٍ وعمر أَذَانين يومَ الجُمُعة، حتَّى كان زمنُ عثمانَ فأَمرَ بالنِّداء الأوَّل بالزَّوراء)).
          وفي رواية لعبد بن حميدٍ في «تفسيره»: ((في زمنِ رسولِ الله صلعم وأبي بكرٍ وعُمَر وعامَّة خلافةِ عُثمانَ، فلمَّا تباعدتِ المنازلُ وكَثُر النَّاس أَمَر بالنِّداء الثَّالث، فلم يُعبْ ذلك عليه وعِيبَ عليه إتمامُ الصَّلاةِ بمنًى)). الحديث.
          وفي «مصنَّف عبد الرَّزَّاق» عن ابن جُرَيجٍ: قال سليمان بن موسى: أوَّل من زادَ الأذان بالمدينة عثمان. فقال عطاءٌ: كلَّا، إنَّما كان يدعو النَّاس دعاءً ولا يؤذَّن غير أذانٍ واحدٍ.
          وفي «المصنَّف» عن الحسن: النِّداء الأوَّل يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام، والذي قبل ذلك مُحدَثٌ، وكذا قاله ابن عمر، وفي روايةٍ عنه: الأذان الأوَّل يوم الجمعة بِدْعةٌ.
          وعن الزُّهريِّ: أوَّل من أحدث الأذان الأوَّل عثمانُ ليُؤذِن أهل الأسواق.
          وفي لفظٍ: ((فأَحْدَثَ عُثْمانُ التَّأذينةَ الثَّالثةَ على الزَّوراءِ ليجتمعَ النَّاس)).
          ووقع في «تفسير جُوَيبرٍ» عن الضَّحَّاك، / عن بُرْد بن سِنانٍ، عن مكحولٍ، عن معاذٍ أنَّ عمر هو الذي زاده، فلمَّا كانت خلافة عمر وكَثُرَ المسلمون أمر مؤذِّنَين أن يؤذِّنا للنَّاس بالجمعة خارجًا من المسجد حتَّى يسمع النَّاس الأذان، وأمر أن يؤذِّن بين يديه كما كان يفعل المؤذِّن بين يدي رسول الله صلعم، وبين يدي أبي بكرٍ، ثمَّ قال عمر: أمَّا الأذان الأوَّل فنحنُ ابتدعناه لكثرة المسلمين، فهو السُّنَّة مِن رسول الله صلعم ماضيةٌ.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه من أوجهٍ:
          أحدها: قوله: (كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ هَذَا النِّدَاءُ) هو: الأذان.
          وقوله: (إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ) هذا سنَّةٌ وعليه عامَّة العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، كذا قال ابن بطَّالٍ وتبعه ابن التِّين، وقالا: خَالَفَ الحديث.
          وفي «الهداية» على مذهبهم: وإذا صعد الإمامُ المنبرَ جلس وأذَّن المؤذِّن بين يدي المنبر، بذلك جرى التَّوارثُ، ولم يكن على عهد رسول الله صلعم سوى هذا الأذان.
          قال المهلَّب: إنَّما جُعل التَّأذين في هذا الحديث ليعرف النَّاس جلوس الإمام فَيُنْصِتُون له.
          ثانيها: (المِنْبَرِ) بكسر الميم، مشتقٌّ من النَّبر، وهو الارتفاع، وكان صلعم يقف على الدَّرجة التي تلي المستراح.
          وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ) يعني: لصلاة الجمعة، وإلَّا فلَهُ صلعم أربعةٌ من المؤذِّنين كما هو معروفٌ. أو المراد: بلالٌ لمواظبته.
          قال الإسماعيليُّ: وأراد به التَّأذين، فجاء بلفظٍ: المؤذِّن، لأنَّ فيه دلالةً على التَّأذين. وعبارة ابن حبيبٍ: كان النَّبيُّ صلعم إذا رَقَى المنبرَ وجلس أذَّن المؤذِّنون على المنابر واحدًا بعد واحدٍ، وكانوا ثلاثةً، فإذا فرغ الثَّالث خطب صلعم. وهو غريبٌ منه، يردُّه ما سلف في باب المؤذِّن الواحد.
          وقال مالكٌ في «المجموعة»: إنَّ هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه، وإنَّما الأذان على المنار واحدًا بعد واحدٍ إذا جلس الإمام على المنبر.
          وذكر ابن التِّين عن هشامٍ خلافه، فذكر أنَّه نقل في إمارته الأذان الذي في الزَّوراء، فجعله مؤذِّنًا واحدًا يؤذِّن عند الزَّوال على المنار، فإذا جلس هشامٌ على المنبر أذَّنوا بين يديه، وهذا أَخَذَ بفعل عثمان قال ابن حبيبٍ: وفِعْلُ الشَّارع أحقُّ أن يُتَّبع.
          قال ابن عبد البرِّ: وقد شُبِّه على قومٍ من أصحابنا في موضع الأذان يوم الجمعة، وأنكروا أن يكون الأذان في الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وعمر، وزعموا أنَّ ذلك أُحدِثَ في زمن هشام بن عبد الملك، وهذا يدلُّ على قلَّة عِلْمِ قائله.
          والنِّداء الثَّالث هو: الإقامة. وقد بيَّنا مِن «المصنِّف» وغيره ما هو هذا النِّداء، وأنَّه قبل الأذان الذي بين يدي الإمام، وأنَّ الأذان الثَّاني في حديث السَّائب إنَّما نعني به: الإقامةَ، لقوله صلعم: ((بينَ كلِّ أَذَانينِ صلاةٌ))، يعني: بين كلِّ أذانٍ وإقامةٍ. ولأنَّها في الاشتقاق: أذانٌ لأنَّها إعلامٌ بحضور الصَّلاة، وقيل: سُمِّيت بذلك للمجاورة، كما قيل: البيِّعان. وإنَّما هو بائعٌ ومشترٍ، والأسودان، وغير ذلك.
          وقال القاضي أبو محمَّدٍ: للجمعة أذانان: عند الزَّوال، والآخر عند جلوس الإمام. قال أبو عمر: وكان عطاء يُنْكِر أن يكون عثمان أحدثَ الثَّاني، وإنَّما أحدثه معاوية. وعنه: أنَّه كان يدعو النَّاس بدعاءٍ ولم يؤذِّن غير واحدٍ.
          واختلف الفقهاء، كما قال أبو عمر: هل يؤذِّن بين يدي الإمام واحدٌ أو مؤذنون؟ فذكر ابن عبد الحكم عن مالكٍ، إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي مَنعَ النَّاس من البيع تلك السَّاعة.
          وهذا يدلُّ على أنَّ النِّداء عندَه واحدٌ بين يدي الإمام. ونصَّ عليه الشَّافعيُّ، ويشهد له حديث السَّائب: ولم يكن لرسول الله صلعم غيرُ مؤذِّن واحدٍ. وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالًا المواظبَ على الأذان دون ابن أمِّ مكتومٍ وغيره.
          وعن ابن القاسم عن مالكٍ: إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذِّنون في الأذان حَرُم البيع. فذكر المؤذِّنون بلفظ الجماعة.
          ويشهد لهذا حديث الزُّهريِّ عن ثَعلبة بن أبي مالكٍ القُرَظيِّ أنَّهم كانوا في زمن عمر بن الخطَّاب يصلُّون يوم الجمعة حتَّى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذَّن المؤذِّنون، الحديث.
          وكذا حكاه الطَّحاويُّ عن أبي حنيفة وأصحابه: وأذَّن المؤذِّنون. بلفظ الجماعة.
          قال أبو عمر: ومعلومٌ عند العلماء أنَّه جائزٌ أن يكون المؤذِّنون واحدًا وجماعةً في كلِّ صلاةٍ، إذا كان ذلك مترادفًا لا يمنعُ من إقامة الصَّلاة في وقتها.
          وعن الدَّاوديِّ: كانوا يؤذِّنون في أسفل المسجد ليسوا بين يدي الإمام، فلمَّا كان عثمان جعل من يؤذِّن على الزَّوراء، وهي كالصَّومعة، فلمَّا كان هشامٌ جعل المؤذِّنين أو بعضهم يؤذِّن بين يديه، فصاروا ثلاثةً، فسُمِّي فعل عُثمان تاليًا لذلك.
          قلت: والآية يدخل فيها ما يقع عليه اسمُ نداءٍ، وهو واحدٌ.
          الثَّالث: (الزَّوْرَاءِ) بزايٍ في الأوَّل، ثمَّ واوٍ ساكنةٍ بعدها راءٌ ممدودٌ، موضع عند سوق المدينة بقرب المسجد، قال البخاري في بعض نسخه: الزَّوراء موضعٌ بالسُّوق بالمدينة. وقال ابن بطَّالٍ: هو حجرٌ كبيرٌ عند باب المسجد.
          وقال ابن التِّين: هو موضع السوق. وقال أبو عبيدٍ: هي ممدودةٌ ومتَّصلةٌ بالمدينة، وبها كان مال أُحَيحَة بن الجُلاح، وهي التي عنى بقوله:
إِنِّي مُقِيمُ عَلَى الزَّوْراءِ أَعْمُرُها                     إِنَّ الكَريمَ عَلَى الإِخوانِ ذُو مَالِ
          وقال أبو عُبَيدٍ الحمويُّ: هي قُرْب الجامع، مرتفعةٌ كالمنارة، وفرَّق بينها وبين أرض أُحَيحة.