التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رفع اليدين في الخطبة

          ░34▒ بَابُ رَفْعِ اليَدَيْنِ فِي الخُطْبَةِ
          932- ذكر فيه عن أنسٍ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ..) الحديث. وترجم له:
          ░35▒ بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ.
          933- وزاد فيه: في باب مَن تمطَّر بالْمَطَرِ: حَتَّى سَالَ الوَادِي، وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، وَلَم يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ.
          الشَّرح: هذا الحديث ذكره البخاريُّ مطوَّلًا ومختصرًا في مواضع هنا، وفي الاستسقاء وعلامات النُّبوَّة، وأخرجه مسلم أيضًا.
          وثابتٌ راويهِ، هو ابن أَسْلم البُنانيُّ، وعبد العزيز الرَّاوي عن أنسٍ هو ابن صهيبٍ، وحمَّادٌ هو ابن زيدٍ، ويونس هو ابن عبيدٍ.
          والأوزاعيُّ اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمِد، الإمام. قيل: روى عن مالكٍ وعنه مالكٌ.
          وقوله: (إِذْ قَامَ رَجُلٌ) وفي رواية الحديث الذي بعده: ((قام أعرابيٌّ)). وفي أخرى: ((فَقَامَ بَعْضُ المسْلِمينَ)). وفي أخرى: ((جَاءَ مِن نَحْوِ دَارِ القَضَاء)). وفي أخرى تأتي في الاستسقاء: ((فقام النَّاس فَصَاحُوا: يا رَسُولَ الله، قَحَطَ الْمَطَرُ)).
          وقوله: (هَلَكَ الكُرَاعُ) هو بضمِّ الكاف، وهو اسمٌ لجميع الخيل، قاله الجوهريُّ. قال ابن قُرقُول: وضبطه بعضهم عن الأَصِيليِّ بكسر الكاف، وهو خطأٌ.
          وقوله: (وَهَلَكَ الشَّاءُ) الشَّاء: جمع كثرةٍ، وشياهٌ بالهاء مِن ثلاثٍ إلى عشرٍ، فإذا جاوز العشر فالتاء، فإذا كثرت قُلْتَ: شاءٌ كثيرةٌ، وجمع شاءٍ شِوى، وإنَّما كان شاء جمعُ شاةٍ مثل تمرة وتمر لأن أصل شاة: شاهة، ظهرت الهاء في الجمع لأنَّ الجمع يردُّ الأشياء إلى أصولها، وأُبدل من الهاء همزةٌ.
          وقال ابن الأثير: جمع الشَّاء: شِياهٌ وشِياءٌ وشَويٌّ، وجمعها: شُويهة وشُويَّة، وعينها واوٌ، وإنَّما انقلبت في شِياهٌ لكسرة الشِّين. وهلاكها بسبب عدم الرَّعي.
          وقوله: (أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ) أي: شدَّةٌ وجهدٌ وجدْبٌ، وهو من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130].
          و(المَالُ): هنا وما بعده: الحيوان كذا فسَّره في حديث «الموطَّأ»: هَلَكَت إذ لم تَجِدْ ما تَرْعَى.
          و(القَزَعَةُ) بفتح القاف والزَّاي: / القطعة من السَّحاب.
          وقيل: قطعٌ دقاقٌ متفرِّقات، ومنه قَزعُ الشَّعْرِ المنهيُّ عنه، وهو ما ذكره ابن التِّين، والجمع: قُزَعٌ.
          قال: وقيل: القطعة الرَّقيقة مِن السَّحاب كأنَّها ظلٌّ يمرُّ من تحت السَّحاب، والجمع: قَزَعٌ. كقَصَبة وقَصَب. وقال أبو عبيدٍ: وأكثر ما يكون ذلك في الخريف.
          وقوله: (ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الجِبَالِ) أي: لكثرتها وسيرها، وتحادر المطر لأنَّ السَّقف لم يكن يردُّه.
          وقوله: (وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ، أَوْ قَالَ: غَيْرُهُ) قال ابن التِّين: بُيِّن في حديث أيُّوب أنَّه ذكَرَ ذلك الرَّجل بعد هذا.
          وقوله: (حَوَالَيْنَا) بفتح اللَّام، ولا يجوز كسرها، وفيه إضمارٌ. أي: أمطر حوالينا. أي: حولنا وما دار بنا. وفي روايةٍ: ((حَولَنا)) وبيَّن صلعم الحوالي بقوله: (عَلَى الآكَامِ..) إلى آخره كما ستعلمه في بابه.
          و(الجَوْبَةُ): بفتح الجيم، وإسكان الواو، ثمَّ باءٍ موحَّدةٍ، الفَجْوة.
          وقال أبو عبد الملك: أي: الجَيب. وفي حديثٍ آخر: مثل الإكليل. أي: دارَ بها السَّحاب، وكذا قال ابن القاسم في معنى حديث مالكٍ، انجابت عن المدينة انجيابَ الثَّوب، أي: تدوَّرت كما يدورُ جَيْبُ القميص.
          وقال ابن وهبٍ: معناه: انقطعت عن المدينة كما يُقطع الثَّوب. وقال ابن شعبان: خرجت عن المدينة كما يخرج الجيب عن الثَّوب.
          وقال الدَّاوديُّ: مثل الجَوْبَة. أي: صارت مستديرةً كالحوض المستدير، وأحاطت بها المياه، ومنه قوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13].
          قال ابن التِّين: وهذا عندي وهمٌ لأنَّ اشتقاق الجابية من جبا بالعين، فيكون اسم الفعلة منه: جَبوةً. وإنَّما هو من جابَ يجُوبُ إذا قطع، مِن قوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] فالعين منه واوٌ فتكون الفعلة منه جوبةٌ كما في الحديث.
          وقال الجَوهريُّ: (الجَوْبَةُ): الفُرْجة من السَّحاب والجبال، وقد أسلفناه.
          وقال ابن فارسٍ: الجوبة كالغائط مِن الأرض.
          وقال الخطَّابيُّ: هي التُّرس، وفي حديثٍ آخر: فَبَقِيتِ المدينةُ كالتُّرس، قال: والجَوبة أيضًا: الوَهْدة المنقطعة عمَّا علا عن الأرض، وهذا نحو ما ذكر ابن فارسٍ.
          و(قَنَاةُ) بفتح القاف: اسمٌ لوادٍ من أودية المدينة.
          و(الجُوْدُ): المطر الكثير. والقَنَاة: مجمع الماء. وقيل: القَنَاة: اسم الوادي، لم يصرفه لأنَّه معرفةٌ بدلٌ مِن معرفةٍ.
          وفي أبواب الاستسقاء: ((حتَّى سَالَ وَادِي قَنَاةَ))، غير مصروفٍ أيضًا لأنَّ قناةَ معرفةٌ، وهي اسمٌ للبقعة لا يَنْصَرِف.
          وأمَّا أحكام البابين ففيه ما ترجم له، وهو رفع اليدين في الخطبة، وسؤال الغيث، وذلك عند الضَّراعة إلى الله والتذلُّل له.
          ويأتي في الاستسقاء حديث أنسٍ ((أنَّه صلعم كانَ لا يَرْفَعُ يَديهِ في شيءٍ مِن دُعَائه إلَّا في الاستسقاءِ، فإنَّه كانَ يَرْفَعُ يديهِ حتَّى يُرى بياضُ إبطيهِ)).
          وليؤوَّل على إرادة الرَّفع البليغ بحيث يُرى بياض إبطيه إلَّا في هذا الموضع، فإنَّه قد ثبتَ رفعُ يديه في مواطن غيره، ويجوز أن يكون المراد: لم أره يرفع ورآه غيره، فقُدِّم المثبت.
          وقد استحبَّ جماعة من العلماء الرَّفع في الدُّعاء، وعن مالكٍ كراهته، ونقل ابن بطَّالٍ عنه أنَّه كان لا يرى الرَّفع إلَّا في خُطبة الاستسقاء.
          واختلف في كيفيَّة الرَّفع، فاختار مالكٌ الإشارة بظهر كفِّيه إلى السَّماء كما جاء في الحديث في مسلمٍ، وقيل: ببطنهما، وهو رفع الرَّغَبِ والطَّلب.
          وقال جماعةٌ مِن العلماء مِن أصحابنا وغيرهم: السُّنَّة في كلِّ دعاءٍ لدفع بلاءٍ كالقحط ونحوه كالأوَّل. فإن كان لسؤال شيءٍ وتحصيله فالثَّاني.
          وعن أبي يوسف: إن شاءَ رفعَ يديه في الدُّعاء، وإن شاء أشار بإصبعه. وفي «المحيط» و«الغنية»: بإصبعه السَّبابة. وفي «التَّجريد»: من يده اليمنى.
          وفيه: الاستسقاء بالدُّعاء بدون صلاةٍ، وهو أحد أنواعه، ولا يستدلُّ به على عدم مشروعيَّة الصَّلاة، وإن استدلَّ به جماعةٌ فإنَّه فعل أحدٌ أنواعه.
          قال ابن بطَّالٍ: رفع اليدين في الخطبة في معنى الضَّراعة إلى الجليل، والتذلُّل له، وقد أخبر النَّبيُّ صلعم أنَّ العبد إذا دعا الله تعالى وبسطَ كفَّيه أنَّه لا يردُّهما خائبتين من فضله، فلذلك رفع الشَّارع يديه، وقد أنكر بعضهم ذلك، فرُوي عن مسروقٍ أنَّ الإمام رفع يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع النَّاس أيديهم. فقال مسروقٌ: ما لهم؟! قَطَعَ اللهُ أيديَهُم.
          وقال الزُّهريُّ: رفع الأيدي يوم الجمعة محدَثٌ. وقال ابن سيرين: أوَّل مَن رفع يديه في الجمعة عُبَيدُ الله بن عبد الله بن مَعْمَرٍ.
          وفيه: الاستسقاء بالدُّعاء يوم الجمعة.
          وفيه: الاكتفاء بدعاء الإمام، ولم يذكر فيه تحويل الرِّداء.
          وفيه: إباحة أن يكلِّم الإمام في الخطبة عند الحاجة، ولا يكون من يكلِّمه لاغيًا. وكلام الدَّاخل مع الخطيب في حال الخطبة، ويحتمل أن يكون إنَّما كلَّمه في حال سكتةٍ كانت منه، إمَّا لاستراحةٍ في النُّطق، وإمَّا حال الجلوس، لكن يُبْعِدُهُ قوله: (قَائِمٌ يَخْطُبُ).
          وفيه: قيام الواحد بأمر العامَّة.
          وفيه: إتمام الخطبة في المطر.
          وفيه: الدُّعاء برفع المطر إذا كثر، لِمَا فيه مِن الأذى.
          وفيه: سؤال رفعه عن موضع البناء وبقاؤه في موضع النَّبات وغير ذلك.
          فرعٌ: قال ابن حبيبٍ المالكيُّ: إذا دعا الإمام في خطبته المرَّة بعد المرَّة أمَّن النَّاس وجهروا جهرًا ليس بالعالي. قال: وذلك فيما ينوب النَّاس من قحطٍ وغيره كعدوٍّ يُخشى، ولا بأس أن يأمرهم فيه بالدُّعاء ورفع اليدين بعد فراغ الخطبة. فأمَّا أن يجعل ذلك حدًّا بعد كلِّ خطبةٍ فهو بدعةٌ. /
          قيل: وأوَّل من أبدعه مِن الخلفاء عبدُ الملك بن مروان، وإذا كان لأمرٍ نزل فذلك جائزٌ، وكذا إذا قرأ: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] فلا خلاف في إجابته، وإنَّما الخلاف في صِفة النُّطق به سرًّا أو جهرًا، ذكره القاضي أبو الوليد.
          وذكر ابن حارثٍ عن محمَّد بن عبد الحكم: بل يُنْصِت ولا يحرِّك لسانه، ويكفيه الضَّمير من ذلك.
          فرعٌ: هذا الدُّعاء كان منه صلعم بعد الزَّوال، وكذلك الاستسقاء الذي لا يجتمع بسببه ليس له وقتٌ محدودٌ لأنَّه دعاءٌ مجرَّدٌ، فيفعل في كلِّ وقتٍ.
          وأمَّا الدُّعاء للاستسقاء الذي ينزو له، فوقتُهُ ضَحوةٌ كما قاله ابن التِّين. والأصحُّ عندنا: أنَّه لا يختصُّ بوقت العيد.