التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

          ░19▒ بَابٌ: لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الجُمُعَةِ
          910- ذكر فيه حديث سَلْمانَ الفَارِسِيِّ: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ) الحديث.
          وقد سلف في باب الدِّهن للجمعة واضحًا، والاختلاف في التَّفرقة بين اثنين وأنَّ الأشبه بتأويله أنْ لا يتخطَّى رجلَين أو يجلس بينهما على ضيق الموضع، ويؤيِّده ما في «الموطَّأ» عن أبي هريرة: لأنْ يُصلِّي أحدُكُم بظهر الحرَّة خيرٌ له من أن يَقْعُدَ حتَّى إذا قام الإمام يَخْطِب جاء يتخطَّى رقابَ النَّاس.
          ومعناه أنَّ المأثم عِندَه في التَّخطِّي أكثرُ من المأثم في التَّخلُّف عن الجمعة، كذا تأوَّله القاضي أبو الوليد، وتأوَّله أبو عبد الملك: أنَّ صلاته بالحرَّة _وهي: حجارةٌ سودٌ بموضعٍ يبعد من المسجد_ خيرٌ له.
          وروى ابن أبي شيبة بلفظ: لأَن أصلِّي بالحرَّة أحبُّ إليَّ من أن أتخطَّى رقاب النَّاس يوم الجمعة.
          وعن سعيد بن المسيِّب مثله، وقال كعبٌ: لأنْ أدعَ الجُمُعة أحبُّ إليَّ من أن أتخطَّى رقابَ النَّاس يوم الجمعة.
          وقال سلمان: إيَّاك والتَخطِّي، واجلس حيث بلغَتْكَ الجمعة، وهو قول عطاءٍ والثَّوريِّ وأحمد، وما قدَّمناه من أنَّ الأشبه ما سلف، هو ما ذكره ابن التِّين في «شرحه».
          وجزم ابن بطَّالٍ في «شرحه» بأنَّ المراد: لا يتخطَّى. يدلُّ على ذلك حديث أسامة بن زيدٍ، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لا يحلُّ لرَجُلٍ أن يفرِّق بين اثنينِ إلَّا بإذْنِهِما))، رواه ابن وهبٍ، وروى ابن أبي خَيْثَمة من حديث الأَرْقَمِ الصَّحابيِّ: ((الذي يتخطَّى رقابَ النَّاس يُفرِّقُ بينَ اثنينِ يومَ الجُمُعة بعدَ خُروجِ الإمامِ كالجارِّ قُصْبَه في النَّارِ)).
          وذكره ابن التِّين مرفوعًا من غير عزوٍ لراوٍ وفي التِّرمذيِّ وأبي داود مِن حديث معاذ بن أنسٍ الجُهَنيِّ مرفوعًا: ((من تخطَّى رِقَابَ النَّاسِ يومَ الجُمُعة اتَّخذ جِسْرًا إلى جنَّهم)). قال التِّرمذيُّ: لا نعرفه إلَّا من حديث رِشْدِين وقد ضعَّفه بعض أهل العلم.
          وفي أبي دَاود والنَّسائيِّ من حديث عبد الله بن بُسْرٍ: جاء رجلٌ يتخطَّى رقابَ النَّاس يوم الجُمُعة، والنَّبيُّ صلعم يَخْطِب، فقال صلعم: ((اجْلِسْ فَقَد آذَيتَ)).
          وقد اختلف العلماء في التَّخطِّي فمذهبنا أنَّه مكروهٌ إلَّا أن يكون قدَّامهم فرجةٌ لا يَصِلُها إلَّا بالتَّخطي فلا يُكره حينئذٍ، وبهذا قال الأوزاعيُّ وآخرون، وقال ابن المنذر: كراهته مطلقًا عن سَلمانَ الفارسيِّ وأبي هريرة وكعبٍ وسعيد بن المسيِّب وعطاءٍ وأحمد بن حنبلٍ.
          وعن مالكٍ كراهته إذا جلس الإمام على المنبر، ولا بأس به قبله، وقال قتادة: يتخطَّاهم إلى مجلسه، وقال الأوزاعيُّ: يتخطَّاهم إلى السَّعة.
          وهذا يشبه قول الحسن قال: لا بأس بالتَّخطِّي إذا كان في المسجد سعةٌ، وقال أبو نَضْرة: يتخطَّاهم بإذنهم.
          وكان مالكٌ لا يُكْرَه، وعن مالكٍ أنَّه لا يُكره إلَّا إذا كان الإمام على المنبر، ولا بأس به قبل ذلك إذا كان بين يديه فُرَجٌ.
          وذكر الطَّحاويُّ عن الأوزاعيِّ مثله، قال: التَّخطِّي الذي جاء فيه القول إنَّما هو والإمام يخطب لأنَّ الآثار تدلُّ عليه، ألا ترى قوله صلعم: ((الذي يَتَخطَّى رِقَابَ النَّاس يفرِّقُ بينَ الاثنينِ بعدَ خُروجِ الإمام كالجارِّ قُصْبَهِ في النَّار)).
          وقال ابن المنذر: لا يجوز شيءٌ مِن ذلك عندي لأنَّ الأذى يحرُم قليلُه وكثيرُهُ.
          قلت: وهو المختار. وفي كتب الحنفيَّة: لا بأس بالتَّخطِّي والدُّنوِّ من الإمام إذا لم يؤذِ النَّاس، وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويُكره إن أخذ، وهو قول مالكٍ، قال الحَلْوانيُّ منهم: والصَّحيح أنَّ الدُّنوَّ من الإمام أفضل لا التَّباعد منه.
          وفي قوله: (لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ) مطلوبيَّة التَّبكير إلى الجمعة ليصلَ إلى مكان مصلَّاه دون تخطٍّ، فلا يفرِّق بين اثنين. وقال ابن التِّين: التَّخطِّي ضَرْبان: قبل جلوس الإمام على المنبر، والثَّاني بعده، فالأوَّل إذا تخطَّى لفُرجةٍ يُباح له التَّخطِّي، رواه ابن القاسم عن مالكٍ إلَّا أن يُؤْمَر بالتَّحفُّظ من أذى النَّاس، ويرفق في التَّخطِّي.
          والثَّاني: لا يتخطَّاها / ولا غيرها لأنَّ تأخُّره عن وقت وجوب السَّعي أبطل حقَّه مِن التَّخطِّي إلى فُرجةٍ، يبيِّنه ما روى بشيرٌ أنَّه ╕ قال للَّذي دخل يوم الجُمُعة: ((اجْلِس فَقَد آذيتَ))، هذا مذهب مالكٍ والأوزاعيِّ أنَّ التَّخطِّي المنهيَّ عنه إذا جلس الإمام على المنبر ولا بأس به قبل ذلك، ورُوي عن أبي بَصْرة أنَّه قال: يتخطَّاهم بإذنهم.