التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلى ركعتين

          ░32▒ بَابٌ: إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
          930- ذكر فيه حديث جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ).
          ░33▒ بَابُ مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
          931- ذكر فيه حديث جابرٍ المذكور وليس فيه: (خَفِيفَتَيْنِ).
          وأخرجه في التَّطوُّع مثنى مثنى، وأخرجه مسلمٌ وباقي الجماعة، وشيخ البخاريِّ في الأوَّل (أَبُو النُّعْمَانِ) وهو محمَّد بن الفضل السَّدوسيُّ، ولقبه عَارِمٌ، تغيَّر بأَخَرةٍ. قال البخاريُّ: جاءنا نعيه سنة أربعٍ وعشرين ومائتين. وروى مسلمٌ عن جماعةٍ عنه.
          وشيخه في الثاني: (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) وهو ابن المَدِينيِّ، رواه عن سفيان _وهو ابن عُيينة_ ورواه الحسن عن جابرٍ، كما أخرجه التِّرمذيُّ، ورواه ابن ماجه بنحوه، ورواه جابرٌ عن سُلَيك بن هُدْبَة الغَطَفانيِّ كما أفاده المنذريُّ، ورواه التِّرمذيُّ مصحَّحًا مِن حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ وأنَّه جاء في هيئةٍ بَذَّةٍ، وفي رواية ليحيى بن سعيدٍ القطَّان: أمرتُهُ أن يصلِّي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجلٌ فيتصدَّق عليه. ورواه أبو داود من حديث أبي سفيان عن جابرٍ وأبي صالحٍ عن أبي هريرة قالا: جاء سُلَيكٍ.. الحديث. وفيه: ((إذا جَاءَ أحدُكُم يومَ الجُمُعة وقد خَرجَ الإمامُ فَلْيَركَعْ رَكْعَتينِ))، وفي مسلمٍ: ((قُمْ فَارْكَع رَكْعَتينِ تجوَّز فيهما))، وإليه أشار البخاريُّ في التَّرجمة بقوله: صلَّى ركعتين خفيفتين.
          وفي روايةٍ له أنَّه جاء والنَّبيُّ صلعم على المنبر، وأنَّه جلس قبل أن يصلِّي، فقال له: ((قُمْ فَارْكَع)) وفي رواية له: ((إذا جَاءَ أحدُكُم الجُمُعةَ والإمامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَع رَكْعَتين وليَتَجوَّز فيهما)).
          وفي ابن ماجه: ((أَصَلَّيتَ رَكْعَتينِ قَبلَ أنْ تَجِيءَ؟ قالَ: لا، قالَ: فَصَلِّ رَكْعَتينِ وَتَجوَّز فِيهما)).
          وفي رواية للدَّارَقُطنيِّ مِن حديث أنسٍ: وأَمْسَكَ عن الخُطْبةِ حتَّى فَرغَ من صلاتِهِ.
          قال: والصَّواب إرساله. وفي روايةٍ له مِن حديث مجاهدٍ عن جابرٍ: (ارْكَع رَكْعَتينِ ولا تَعُدْ لِمِثْلِ هَذَا) قال: فركعهما ثمَّ جلس.
          ولابن حبَّان في حديث أبي سعيدٍ السَّالف: ثمَّ حثَّ الناس على الصَّدقة، فألقوا ثيابًا فأعطاه منها ثوبين، وأنَّه جاء في الجمعة الأخرى وطرح أحد ثوبيه لمَّا أمرَ صلعم بالصَّدقة. وخرَّجه ابن خزيمة، وصحَّحه الحاكم على شرط الشَّيخين.
          وفي «صحيح ابن حبَّان» أنَّه أمرَه بأن يُصلِّي ركعتين في ثاني جمعةٍ وثالثها. وحديث: ((لا تُصَلُّوا والإمامُ يخطُبُ)) واهٍ.
          وفي «الأسرار» مِن كتب الحنفيَّة عن الشَّعبيِّ عن ابن عمر مرفوعًا: ((إذا صَعَدَ الإمامُ المنبرَ فلا صلاةَ ولا كلامَ حتَّى يَفْرَغَ))، والصَّحيح من الرِّواية: ((إذا جَاءَ أحدُكُم والإمامُ على المنبرِ فلا صَلاةَ ولا كَلامَ)).
          وحديث ابن عمر يرفعه: ((مَن دَخَلَ المسجِدَ يومَ الجُمُعةِ فصلَّى أربعَ رَكَعاتٍ قَرأَ في كلِّ ركعةٍ الفاتحةَ وخمسين مرَّةً {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} فذلِكَ مَائتَا مرَّةٍ لم يَمُتْ حتَّى يَرَى مَقْعَدُهُ مِن الجنَّة أو يُرَى له)). ذكره الدَّارَقُطنيُّ في «غرائبه» وضعَّفه.
          إذا تقرَّر ذلك، فاختلف العلماء فيمن دخلَ يومَ الجُمُعة والإمام يخطب.
          ومذهبنا أنَّه يُستحبُّ له أن يصلِّي ركعتين تحيَّة المسجد ويخفِّفهما، ويُكره له تركها، وبه قال الحسن البصريُّ ومكحولٌ وعبد الله بن يزيد وابن عيينة وأبو ثورٍ والحميديُّ وأحمد وإسحاق وابن المنذر وداود وآخرون.
          قال التِّرمذيُّ: العمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق، وقال بعضهم: إذا دخل والإمام يخطب فإنَّه يجلس ولا يُصلِّي، وهو قول سفيان الثَّوريِّ وأهل الكوفة، والقول الأوَّل أصحُّ، وذكر ابن عبد البرِّ أنَّ الطَّبريَّ قال كذلك _يعني: بالصَّلاة_ ورواه ابن العربيِّ عن محمَّد بن الحسن عن مالكٍ.
          وقال عطاء بن أبي رَبَاحٍ وشريحٌ وعُرْوة وابن سيرين والنَّخعيُّ وقتادة ومالكٌ واللَّيث والثَّوريُّ والشَّعبيُّ وأبو حنيفة وسعيد بن عبد العزيز: لا يُصلِّي شيئًا.
          وقال أبو مِجْلَزٍ: هو مخيَّرٌ بين الصَّلاة وتركها جمعًا بين الأحاديث.
          وقال الأوزاعيُّ: إنْ كان صلَّاهما في بيته جلس، وإلَّا ركعهما والإمام يخطب عملًا بالرِواية السَّالفة: ((أصلَّيتَ قَبْلَ أن تَجِيءَ؟)) واحتجَّ مَن يرى بالصَّلاة بحديث سُلَيكٍ هذا، وبعموم: ((إذا دخلَ أحدُكُم المسجِدَ فَلْيَركَعْ رَكْعَتين))، أو بغيره من الأحاديث السَّالفة، وحمله على غير هذه الحالة بعيد.
          قال ابن حزمٍ: ولولا البرهان بأن لا فرضَ غيرُ الخمس، لكانت هاتان فرضًا، ولكنَّهما في غاية التَّأكيد، ولا شيء مِن السُّنن أوكد منهما لتردُّد أمرهِ صلعم بهما.
          احتجَّ من منع _ونقل ابن بطَّال أنَّه قول جمهور أهل العلم، وذكره ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان وعليٍّ وابن عبَّاسٍ_ بقول ابن شهابٍ: خروج الإمام يقطع الصَّلاة، وكلامه يقطع الكلام. ورُوي عن ثعلبة بن أبي مالكٍ القُرظيِّ أنَّهم كانوا في زمن عمر بن الخطَّاب يصلُّون يوم الجمعة حتَّى يخرج عمر، أنصتنا فلم يتكلَّم منَّا أحدٌ.
          وفي «الإكمال» لعياضٍ أنَّ أبا بكرٍ وعمر وعثمان كانوا يمنعون مِن الصَّلاة عند الخطبة، وقال ابن بَزِيزَة: هو مرويٌّ عن الخلفاء الثَّلاثة: عمر وعثمان وعليٍّ، وفي كتاب «اللُّباب» روى عليُّ بن عاصمٍ عن خالدٍ الحذَّاء أنَّ أبا قِلابة جاء يوم الجمعة والإمام يخطب فجلس ولم يصلِّ، وعن عقبة بن عامرٍ: الصَّلاة والإمامُ على المنبر معصيةٌ. واحتجَّ أيضًا بالحديث الذي فيه أنَّ رجلًا جاء يتخطَّى رقاب النَّاس، فقال له: ((اجْلِس فَقَد آذَيتَ))، فأمره بالجلوس دون الصَّلاة.
          وذكر سَندٌ في كتاب «الطَّرَّاز»: وترك الخطباء الرُّكوع إذا خرجوا لحاجة الخطبة، ولم يُنقل عن الشَّارع أنَّه ركع قبلها في المسجد، فكذا / الحاجة للاستماع والإنصات.
          وقال ابن العربيِّ: الصَّلاة حين ذاك حرامٌ مِن ثلاثة أوجهٍ: الآية، فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه، ويشتغل بغير فرضٍ، وصحَّ عنه صلعم أنَّه قال: ((إذا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ فَقَد لَغَوْتَ))، فإذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر _الأصلان المفروضان الرُّكنان في الملَّة_ يحرُمَان حالَ الخطبة فالنَّفل أولى بالتَّحريم، ولو دخل والإمام في صلاةٍ لم يركع، والخطبة صلاةٌ إذ يحرُم فيها مِن الكلام والعمل ما يحرُم في الصَّلاة.
          قال: وأمَّا حديث سُلَيكٍ فلا يعترض على هذه الأصول مِن أربعة أوجهٍ:
          أوَّلها: لأنَّه خبرُ واحدٍ فلا تعارضه أخبارٌ أقوى منه وأصولٌ مِن القرآن والشَّريعة فوجَبَ تركه.
          ثانيها: يحتمل أنَّه كان في وقت كان الكلام مباحًا في الصَّلاة لأنَّا لا نعلم تاريخه، فكان مباحًا في الخطبة، فلمَّا حرُم بالخطبة الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر الذي هو آكدُ فرضيَّةً من الاستماع فأولى أن يحرُمَ ما ليس بفرضٍ.
          الثالث: أنَّ الشَّارع كلَّم سُلَيكًا وقال له: (قُمْ فَصَلِّ)، فلمَّا كلَّمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع، إذ لم يكن هناك قولٌ ذلك الوقت إلَّا منه صلعم إلَّا مخاطبتَهُ له وسؤالَهُ وأمره.
          الرَّابع: أنَّ سُليكًا كان ذا بَذَاذةٍ وفقرٍ، فأراد صلعم أن يُشهره ليُرى حاله.
          وكذا سلف في روايةٍ، وكذا قال الدَّاوديُّ: إنَّما فعل ذلك به ليُتَصَدَّق عليه، قال: وفي الحديث أنَّهم كسُوهُ ثوبَينِ فأمر صلعم بالصَّدقة، فقام الرَّجل فألقى أحد الثَّوبَين، فنهاه وأمره بإمساكه.
          وهذا مِن الأمور التي يفعلها الإمام في الخطبة، وردَّه ابن التِّين بالحديث، ولو كان كما ذكره لَمَّا سأله: (هَلْ صَلَّيْتَ؟).
          وقال الطَّحاويُّ: يجوز أنَّه لمَّا أمره قطع خطبته ثمَّ استأنف، ويجوز أن يكون بنى عليها. قال: ومِن الدَّليل على أنَّ ذلك كان وقت إباحة الكلام في خطبته أنَّه ذكر في حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ، فذكر ما سلف، قال: ولا نعلم خلافًا أنَّ مثل هذا الكلام محظورٌ في الخطبة لأمرِهِ فيها بالإنصات.
          وعند ابن بَزِيزَة: رأى بعض المالكيَّة أنَّ قصَّة سُلَيكٍ قضيَّة عين، فأراد صلعم أن يراه النَّاس فيتصدَّقوا عليه.
          قال: وقد قيل: إنَّ ترك الرُّكوع سنَّةٌ ماضيةٌ، وعملٌ مستفيضٌ في زمن الخلفاء، واستدلُّوا أيضًا بحديث أبي سعيدٍ الخدريِّ مرفوعًا: ((لا تَصلُّوا والإمامُ يَخْطُبُ))، قال: وذكر الدَّارَقُطنيُّ أنَّه صلعم قال لسُلَيكٍ: ((ارْكَعْ رَكْعَتين ولا تَعُدْ لِمْثلِ هذا))، وقد سلف مع رواية الإمساك أيضًا، واستدلُّوا أيضًا بواقعة عثمان حين دخل وعمر يخطب، وإنكار عمر عليه في ترك الغسل فقط، ولم ينقل أمره بالرَّكعتين، ولا نقل أنَّه صلَّاهما، وأجابوا عن حديث سُلَيكٍ بأنَّه لا دلالة فيه لأنَّ عندهم فوات التَّحيَّة بالجلوس، خلافًا لأبي حنيفة.
          وفي «المدوَّنة» أنَّ الإمام إذا دخل قبل أن يُحْرِمَ المتنفِّل يجلس لقربه، وخوف الفوت. وفي «المختصر»: الصَّلاة جائزةٌ إلى أن يجلس على المنبر، وإن دخل بعد جلوسه والمؤذِّن يؤذِّن جلس، فإنْ أحرم ساهيًا أو جاهلًا، ففي الإتمام قولان عن مالكٍ.
          وفي الحديث حُجَّةٌ لمن أجاز للخطيب يوم الجمعة أن يتكلَّم في خطبته بما عرض له من كلامٍ من غير جنس الخطبة ما فيه نفعٌ للنَّاس وتعليمٌ لهم، وقد رُوي عن عليٍّ ذلك حين تخطَّى الأشعَثُ بن قيسٍ رقابَ النَّاس، ذكره الطَّبريُّ.
          وفي «المدوَّنة»: جائزٌ أن يتكلَّم الإمام في خطبته لأمرٍ أو نهيٍ ولا يكون لاغيًا، ومن كلمَّه الإمام فردَّ عليه لم يكن لاغيًا.