شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا لطم المسلم يهوديًا عند الغضب

          ░32▒ باب: إِذَا لَطَمَ الْمُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْغَضَبِ.
          رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم.
          فيه أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إلى رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأنْصَارِ قَدْ لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ: ادْعُوهُ، فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَلَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِي فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: والذي اصْطَفَى مُوسَى على الْبَشَرِ، قُلْتُ: أَعلى مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ. قَالَ: لا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي، أَو جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ). [خ¦6917]
          فيه من الفقه: أنَّه لا قصاص بين مسلمٍ وكافرٍ، وهو قول جماعة الفقهاء، والدليل على ذلك من هذا الحديث أنَّ النبيَّ صلعم لم يقاصَّ اليهوديَّ من لطمة المسلم له، ولو كان بينهما قصاصٌ لبيَّنه ◙، لأنَّه بُعِث معلِّمًا وعليه فرض التبليغ.
          فإن قيل: فإنَّ الكوفيِّين يرون قتل المسلم بالكافر فيجب أن يكون على قولهم بينه وبين المسلم قصاصٌ في اللطمة.
          قيل: إنَّ الكوفيِّين لا يرون القصاص بين المسلمين في اللطمة ولا الأدب، إلَّا أن يجرحه ففيه الأرش، والكافر والمسلم أحرى ألَّا يرون بينهما قصاصًا، فالمسألة إجماعٌ.
          قال المُهَلَّب: وفيه جواز رفع المسلم إلى السلطان بشكوى الكافر به.
          وفيه: خلق النبيِّ صلعم وما جبله الله عليه من التواضع وحسن التأدُّب في قوله: (لا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأنْبِيَاءِ) وذلك كقول أبي بكرٍ الصدِّيق ☺: ولِّيتكم ولست بخيركم. وقد تقدَّم الكلام في هذا الحديث والآثار المعارضة له في أبواب الإشخاص والملازمة، [خ¦2411] فينبغي لأهل الفضل الاقتداء بالنبيِّ صلعم وأبي بكرٍ وغيره، فإنَّ التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين.
          وقد روى أبو هريرة عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((من أحبَّ أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم، فلينظر إلى أبي ذرٍّ))، ذكره ابن أبي شيبة.
          وفيه: أنَّ العرش جسمٌ وأنَّه ليس العلم كما قال سعيد بن جبيرٍ، لقوله: (آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ) والقائمة لا تكون إلَّا جسمًا، وممَّا يؤيِّد هذا قوله ╡: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]ومحالٌ أن يكون المحمول غير جسمٍ؛ لأنَّه لو كان روحانيًّا لم يكن في حمل الملائكة الثمانية له عجبٌ، ولا في حمل واحدٍ، فلمَّا عجب الله تعالى بحمل الثمانية له علمنا أنَّه جسمٌ؛ لأنَّ العجب في حمل الثمانية للعرش لعظمته وإحاطته.