شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين

          ░8▒ باب: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قد حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْل القَتِيل) الحديث. [خ¦6880]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ في بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} إلى قوله {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}[البقرة:178]. [خ¦6881]
          قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ في الْعَمْدِ، وَاتِّبَاعٌ بالمَعْرُوفِ وَيُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ.
          اختلف العلماء في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفةٌ: وليُّ المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتصَّ، وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. روي هذا عن سعيد بن المسيِّب وعطاءٍ والحسن، ورواه أشهب عن مالكٍ، وبه قال الليث والأوزاعيُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ.
          وقال آخرون: ليس لوليِّ المقتول عمدًا إلَّا القصاص، ولا يأخذ الدية إلَّا أن يرضى القاتل، رواه ابن القاسم عن مالكٍ، وهو المشهور عنه، وبه قال الثوريُّ والكوفيُّون.
          وحجَّة القول الأوَّل: قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}[البقرة:178]أي ترك له دمه، ورضي منه بالدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:178]، أي: على صاحب الدم اتِّباعٌ بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداءٌ إليه بإحسانٍ {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحَمَةٌ}[البقرة:178]ومعناه: أنَّ من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]فتفضَّل الله على هذه الأمَّة بالتخفيف والدية إذا رضي بها وليُّ الدم.
          واحتجُّوا أيضًا بقوله صلعم: (وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أنْ يُودَى وَإِمَّا أنْ يُقَادَ) وهذا نصٌّ قاطعٌ في أنَّه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم.
          وأيضًا من طريق النظر فإنَّما لزمته الدية بغير رضاه لأنَّ عليه فرضًا إحياء نفسه، وقد قال الله ╡: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29].
          قال الطحاويُّ: وحجَّة أهل المقالة الثانية: حديث أنس بن مالكٍ في قصَّة الرُّبيِّع حين كسرت ثنيَّة المرأة؛ فأمر النبيُّ صلعم بكسر ثنيَّتها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنيَّة الرُّبيِّع؟ فقال رسول الله صلعم: ((يا أنس، كتاب الله القصاص))، فلمَّا حكم رسول الله صلعم بالقصاص ولم يخيِّرها بين القصاص وأخذ الدية؛ ثبت بذلك أنَّ الذي يجب بكتاب الله وسنَّة رسوله صلعم في العمد هو القصاص؛ إذ لو كان يجب للمجني عليه الخيار بين القصاص والعفو لأعلمها النبيُّ صلعم بما لها أن تختار من ذلك. ألا ترى أنَّ حاكمًا لو تقدَّم رجلٌ إليه في شيءٍ يجب له فيه أحد شيئين، فثبت عنده حقُّه أنَّه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، وإنَّما يحكم له بأن يختار ما أحبَّ منهما، فإن تعدَّى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم، ورسوله صلعم أحكم الحكماء، فلمَّا حكم بالقصاص وأخبر أنَّه كتاب الله ثبت ما قلناه، وجب أن يعطف عليه حديث أبي هريرة، ويجعل قول رسول الله صلعم فيها فهو بالخيار بين أن يعفو، أو يقتصَّ، أو يأخذ الدية على الرضا من الجاني بغرم الدية حتَّى تتَّفق معاني الآثار.
          وأمَّا قولهم: إنَّ عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنَّا رأيناهم قد أجمعوا أنَّ الوليَّ لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألَّا أقتلك؛ أنَّ الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله ╡ تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها، ولم يؤخذ منه كرهًا، فيدفع إلى الوليِّ، فكذلك الدية لا يجبر عليها ولا تؤخذ منه كرهًا.
          قال المُهَلَّب: قوله صلعم: (فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) حضُّ ونَدبٌ لأولياء القتيل أن ينظروا خير نظرٍ، فإن كان القصاص خيرًا من أخذ الدية اقتصُّوا ولم يقبلوا الدية، وإن كان أخذ الدية أقرب إلى الألفة وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فعلت من غير جبر القاتل على أخذها منه، ولا يقتضي قوله (بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) إكراه أحد الفريقين كما لا يقتضي قوله ╡: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة:178]أخذ الدية من القاتل كرهًا.
          وفي حديث أبي هريرة حجَّةٌ للثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ وأحمد وإسحاق في قولهم أنَّه يجوز العفو في قتل الغيلة، وهو أن يغتال الإنسان فيخدع بالمشي حتَّى يصير إلى موضعٍ يختفى فيه، فإذا صار إليه قتله.
          وقال مالكٌ: الغيلة بمنزلة المحاربة وليس لولاة الدم العفو فيها، وذلك إلى السلطان يقتل به القاتل.
          قال ابن المنذر: وقوله صلعم: ((ومن قُتِل له قتيلٌ فأهله بين خيرتين: إن أحبُّوا العقل، وإن أحبُّوا القود)) وظاهر الكتاب يدلُّ على أنَّ ذلك للأولياء دون السلطان.
          قال المُهَلَّب: وقوله: (إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ) ليدخلوا في دين الله أفواجًا، فكان ذلك ساعةً من نهارٍ، فلمَّا دخلوا عادت حرمتها المعظَّمة على سائر الأرض من تضعيف إثم منتهك الذنوب فيها، وزالت حرمتها الغير مشروعةٍ من الله ولا من رسوله، مِنْ ترك مَنْ لجأ إليها ودخلها مستأمنًا، فارًّا بدمٍ أو بِخَرْبَةٍ لقول النبيِّ صلعم: (وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ) قاله في قتيل خزاعة المقتول في الحرم، فلمَّا جعل الله القصاص في قتيل الحرم، علمنا أنَّه يجوز الاقتصاص في الحرم، ولو لم يجز ذلك لبيَّنه النبيُّ صلعم، وبيَّن أنَّ الحرمة الباقية لمكَّة على ما كانت في الجاهليَّة هو تعظيم الذنب فيها عند الله تعالى على سائر الأرض.
          قوله صلعم: ((أبغض الناس إلى الله ملحدٌ في الحرم))، فهذا نصٌّ من النبيِّ صلعم على المعنى الباقي للحرم، ويؤيِّد هذا قوله تعالى لمَّا ذكر تحريم الأربعة الأشهر: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}[التوبة:36]تعظيمًا للظلم فيهنَّ؛ إذ الظلم في غيرهنَّ محرَّمٌ أيضًا، فدلَّ تخصيصهنَّ بالنهي عن الظلم على أنَّ لها مزيَّةً على غيرها في إثم الظلم والقتل وغيره.
          والساعة التي أُحِلَّت له لم يكن القتل فيها محرَّمًا لإدخاله إيَّاهم في شرائع الله، فلذلك كل قتيل يكون على شرائع الله لا يعظم فيها ويقتصُّ فيها من صاحبه، وقد تقدَّم اختلاف العلماء في هذه المسألة في كتاب الحجِّ. [خ¦1832]