شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد

          ░26▒ باب: جَنِينِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ على الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِة، لَا(1) عَلَى الْوَلَدِ.
          فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَضَى في جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ التي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ على عَصَبَتِهَا). [خ¦6909]
          وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرَّةً: (اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا في بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلى النَّبيِّ صلعم، فَقَضَى النَّبيِّ صلعم أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بدِيَة الْمَرْأَةِ على عَاقِلَتِهَا). [خ¦6910]
          قال المؤلِّف: قوله في آخر الحديث: (وَأَنَّ الْعَقْلَ على عَصَبَتِهَا) يريد عقل دية المرأة المقتولة لا عقل دية الجنين، يبيِّن ذلك قوله في الحديث الآخر: (وَقَضَى أَنَّ دِيَة الْمَرْأَةِ على عَاقِلَتِهَا)، وقوله في الترجمة: (إِنَّ الْعَقْلَ على الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الْوَالِدِ، لَا عَلَى الْوَلَدِ): يعني عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته.
          وقوله: (لَا عَلَى الْوَلَدِ(2)) فإنَّما يريد بذلك أنَّ ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها لا يعقلون عنها، وكذلك الإخوة من الأمِّ لا يعقلون عن أختهم لأمِّهم شيئًا؛ لأنَّ العقل إنَّما جعل على العصبة دون ذوي الأرحام، ألا ترى قوله (أَنَّ مِيرَاثَهَا لِزَوْجِهَا وَبَنِيهَا وَعَقْلَهاَ على عَصَبَتِهَا) يريد أنَّ من ورثها لم يعقل عنها حين لم يكن من عصبتها.
          قال ابن المنذر: وهذا قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ وأحمد بن حنبلٍ وأبي ثورٍ وكلِّ من أحفظ عنه.
          واختلفوا في عقل الجنين _وهي الغرَّة_ على من تجب؟
          فقالت طائفةٌ: هي على العاقلة أيضًا، هذا قول النَّخَعِيِّ والثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ.
          وقال آخرون: هي في مال الجاني، روي ذلك عن الحسن والشَّعبيِّ، وبه قال مالكٌ والحسن بن صالحٍ.
          والحجَّة لقول مالكٍ قوله في الحديث (وَقَضَى دِيَةَ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا) ولم يذكر في ذلك دية الغرَّة، هذا ظاهر الحديث، وأيضًا فإنَّ عقل الجنين لا يبلغ ثلث الدية، ولا تحمل العاقلة عند مالكٍ إلَّا الثلث فصاعدًا، هذا قول الفقهاء السبعة، وهو الأمر القديم عندهم.
          وحجَّة القول الأوَّل: ما رواه أبو موسى الزَّمِن قال: حدَّثنا عثمان بن عُمَر، عن يونس، عن الزهريِّ في حديث أبي هريرة: ((أنَّ النبيَّ صلعم قضى بديتها ودية جنينها على عاقلتها))، وبما رواه مجالد بن سعيدٍ عن الشَّعبيِّ، عن جابرٍ: ((أنَّ النبيَّ صلعم جعل غرَّة الجنين على عاقلة القاتلة)). وقال آخرون: إنَّ المجالد بن سعيدٍ ليس بحجَّةٍ فيما انفرد به، وأبو(3) موسى الزمن وإن كان ثقةً فلم يتابعه أحدٌ على قوله: ((ودية جنينها على عاقتلتها)).
          واختلفوا لمن تكون الغرَّة التي تجب في الجنين، فذكر ابن حبيبٍ أنَّ مالكًا اختلف قوله في ذلك، فمرَّةً قال: الغرَّة لأمِّ الجنين، وهو قول الليث، وقال مرَّةً: هي بين الأبوين، الثلثان للأب والثلث للأمِّ. وهو قول أبي حنيفة والشافعيِّ.
          وحجَّة القول الأوَّل: أنَّ الغرَّة إنَّما وجبت لأمِّ الجنين؛ لأنَّه لم يعلم إن كان الجنين حيًّا في وقت وقوع الضربة بأمِّه أم لا.
          وحجَّة القول الثاني: أنَّ المرأة المضروبة لمَّا ماتت من الضربة قضى فيها رسول الله صلعم بالدية مع قضائه بالغرَّة، فلو كانت الغرَّة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى فيها بالغرَّة، ولكان حكم امرأةٍ ضربتها امرأةٌ فماتت من ضربتها فعليها ديتها، ولا تجب عليها للضربة أرشٌ.
          وقد أجمعوا أنَّه لو قطع يدها خطأً فماتت من ذلك لم يكن لليد دية، ودخلت في دية النفس، فلمَّا حكم رسول الله صلعم مع دية المرأة بالغرَّة ثبت بذلك أنَّ الغرَّة ديةٌ للجنين لا لها، فهي موروثةٌ عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيًّا فمات، عن الطحاويِّ.
          وفي حكم النبيِّ صلعم في الجنين بغرَّةٍ ولم يحكم فيه بكفَّارةٍ حجَّةٌ لمالكٍ وأبي حنيفة على الشافعيِّ في إيجابه كفَّارة عتق رقبةٍ على من تجب عليه الغرَّة، ولا حجَّة له، ولو وجبت فيه كفَّارةٌ لحكم بها صلعم، والكفَّارة إنَّما تجب في إتلاف روحٍ، ولسنا على يقينٍ في أنَّ الجنين كان حيًّا وقت ضرب أمِّه، ولو أيقنَّا بذلك لوجبت فيه الدية كاملةٌ، فلمَّا أمكن أن يكون حيًّا تجب فيه الدية كاملةٌ، وأمكن أن يكون ميِّتًا لا يجب فيه شيءٌ؛ قطع النبيُّ صلعم فيه التنازع والخصام بأن جعل فيه غرَّةً عبدًا أو أمةً، ولم يجعل فيه كفَّارةً. قاله ابن القصَّار.
          وفي هذا الحديث حجَّةٌ لمن أوجب دية شبه العمد على العاقلة، وهو قول الثوريِّ والكوفيِّين والشافعيِّ. قالوا: من قتل إنسانًا بعصًى أو حجرٍ أو شبهه، ممَّا يمكن أن يموت به القتيل، ويمكن ألَّا يموت فمات من ذلك أنَّ فيه الدية على عاقلة القاتل، كما حكم النبيُّ صلعم في هذه القضيَّة بدية المرأة على عاقلة القاتلة، قالوا: وهذا شبه العمد، والدية فيه مغلَّظةٌ ولا قود فيه.
          وأنكر مالكٌ والليث شبه العمد، وقالوا: هو باطلٌ، وكلُّ ما عمد به القتل فهو عمدٌ، وفيه القود.
          والحجَّة لهم ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جُريجٍ، عن عَمْرو بن دينارٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن عمر ((أنَّه نشد الناس: ما قضى به رسول الله صلعم في الجنين؟ فقام حمل بن مالكٍ، فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطحٍ فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلعم في جنينها بغرَّةٍ وأن تقتل المرأة)).
          قالوا: وهذا مذهب عُمَر بن الخطَّاب، روي عنه أنَّه قال: يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم، قال الحجَّاج: يعني العصا، ثمَّ يقول: لا قود عليَّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلَّا أقدته.
          قال المؤلِّف: فسألت بعض شيوخي عن حديث ابن جُريجٍ، عن عَمْرو بن دينارٍ، فقال: الأحاديث التي أخرج البخاريُّ التي جاء فيها الدية على العاقلة أصحُّ منه؛ لأنَّ ابن عيينة قد رواه عن عَمْرو بن دينارٍ ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميديُّ، عن هشام بن سليمان المخزوميِّ، عن ابن جُريجٍ، مثل رواية ابن عيينة، ولم يذكر فيه قتل المرأة، وروى شعبة، عن قَتادة، عن أبي المليح، عن حمل بن مالك بن النابغة قال: ((كانت لي امرأتان فضربت إحداهما الأخرى بحجرٍ فأصابتها فقتلتها وهي حاملٌ، فألقت جنينًا وماتت، فقضى رسول الله صلعم بالدية على العاقلة، وقضى في الجنين بغرَّة ٍعبدٍ أو أمةٍ)).
          قال الطحاويُّ: فلمَّا اضطرب حديث حمل بن مالكٍ كان بمنزلة ما لم يرد فيه شيءٌ، وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة فيها وهو نفي القصاص. ولمَّا ثبت أنَّ النبيَّ صلعم جعل دية المرأة على العاقلة ثبت أنَّ دية شبه العمد على العاقلة، وقد روي عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّه قال: شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود.
          وقد تأوَّل الأصيليُّ حديث أبي هريرة والمغيرة على مذهب مالكٍ، فقال: يحتمل أن يكون لمَّا وجب قتل المرأة تطوَّع قومها عاقلتها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثمَّ ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبيُّ صلعم بأداء ما تطوَّعوا به إلى أولياء المقتولة.


[1] قوله: ((لا)) ليس في (ز) والمثبت من المطبوع ومن صحيح البخاري.
[2] في (ز) والمطبوع: ((الوالد)) والمثبت من صحيح البخاري.
[3] في (ز): ((وأبي)) والمثبت من المطبوع.