شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من استعان عبدًا أو صبيًا

          ░27▒ باب مَنِ اسْتَعَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا.
          وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إلى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ: ابْعَثْ لي غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلا تَبْعَثْ إِلَيَّ حُرًَّا.
          فيه أَنَسٌ: (لَمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلعم الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ في الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللهِ مَا قَالَ لي في ِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا). [خ¦6911]
          قال المُهَلَّب: في هذا دليلٌ على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقَّةٍ عليهم فيه، وفيما لا يخاف عليهم منه التلف، كما استخدم النبيُّ صلعم أنسًا وهو صغيرٌ فيما أطاقه وقوي عليه.
          قال غيره: اشتراط أمِّ سلمة ألَّا يرسل إليها حرًّا؛ فلأنَّ جمهور العلماء يقولون: من استعان صبيًّا حرًّا لم يبلغ أو عبدًا بغير إذن مواليه فهلكا في ذلك العمل؛ فهو ضامنٌ لقيمة العبد وهو ضامنٌ لدية الصبيِّ الحرِّ وهي على عاقلته.
          فإن حمل الصبيُّ على دابَّةٍ يسقيها أو يمسكها فوطئت الدابَّة رجلًا فقتلته، فقال مالكٌ في «المدوَّنة»: الدية على عاقلة الصبيِّ، ولا ترجع على عاقلة الرجل. وهو قول الثوريِّ.
          فإن استعان حرًّا بالغًا متطوِّعًا أو بإجارةٍ فأصابه شيءٌ فلا ضمان عليه عند جميعهم إن كان ذلك العمل لا غرر فيه، وإنَّما يضمن من جنى أو تعدَّى.
          واختلفوا إذا استعمل عبدًا بالغًا في شيءٍ فعطب. فقال ابن القاسم: إن استعمل عبدًا في بئرٍ يحفرها ولم يؤذن له في الإجارة فهو ضامنٌ إن عطب، وكذلك إن بعثه بكتابٍ إلى سفرٍ.
          وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ قال: سواءٌ أذن له سيِّده في الإجارة أم لا، لا ضمان عليه فيما أصابه إلَّا أن يستعمله في غررٍ كثيرٍ؛ لأنَّه لم يؤذن له في الغرر.
          قال سَحنون: وهذه الرواية أحسن من قول ابن القاسم وغيره.
          فإن قيل: فما وجه قوله: (مَا قَالَ لي لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا) وظاهره يدلُّ أنَّه تكريرٌ يدخل في القسم الأوَّل.
          قيل: إنَّما أراد أنَّه لم يَلُمه في القِسم الأوَّل على شيءٍ فعله وإن كان ناقصًا عن إرادته، ولا لامَه في القسم الآخر على شيءٍ ترك فعله خشية الخطأ فيه، فتركه أنسٌ من أجل ذلك، فلم يلُمه النبيُّ صلعم على تركه إذ كان يتجوَّزه منه لو فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته، وإلى هذا أشار بقوله هذا (هَكَذَا)، لأنَّه كما تجوَّز عنه ما فعله ناقصًا عن إرادته كذلك كان يتجوَّز عنه ما لم يفعله خشية مواقعة الخطأ فيه لو فعله ناقصًا لشرَفِ خُلقه وحلمِه صلعم.