شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ومن أحياها}

          ░2▒ بَابُ قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}[المائدة:32]قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا لحَقٍّ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
          فيه(1): ابْنُ مَسْعُودٍ وقَالَ النَّبيُّ صلعم(2): (لا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلَّا كَانَ على ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا). [خ¦6867]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(3): (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ). [خ¦6868]
          وفيه ابْن عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ قَالَ: وَقَتْلُ النَّفْسِ). [خ¦6870]
          وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبيِّ صلعم: (أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ).
          وفيه أُسَامَة: (بَعَثَنَا النَّبيُّ صلعم إلى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ(4) مِنَ الأنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا أغَشينَاهُ(5)، قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، قَالَ(6): فَكَفَّ عَنْهُ الأنْصَارِيُّ، وطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبيَّ صلعم، قَالَ(7) لي: يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أن قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ). [خ¦6872]
          وفيه عُبَادَةُ: (بَايَعْنَا النَّبيَّ صلعم على أَنْ لاَ نَقْتُلَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) الحديث. [خ¦6873]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم(8): (مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا). [خ¦6874]
          وفيه الأحْنَفُ عَن أبي بَكْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ في النَّارِ). [خ¦6875]
          اختلف العلماء في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]و {فكَأَنَّمَا(9) أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]. فقالت طائفةٌ: معناها: التغليظ وتعظيم الوزر في(10) قتل المؤمن، عن الحسن(11) وقَتادة ومجاهدٍ، قال مجاهدٌ: إنَّ قاتل النفس المحرَّمة يصير إلى النار كما يصير إلى النار لو قتل الناس جميعًا.
          وقال آخرون: معناها أنَّه يجب عليه من القود بقتله المؤمن مثلما يجب عليه لو قتل الناس جميعًا؛ لأنَّه لا(12) يكون عليه غير قتلةٍ واحدةٍ لجميعهم. عن زيد بن أسلم.
          وقال آخرون: أي أنَّ المؤمنين كلَّهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعًا. عن الزجَّاج، وله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}[المائدة:32]، أي: ومن لم يقتل أحدًا فقد سلم(13) منه الناس جميعًا(14)، عن مجاهدٍ.
          وقالت طائفةٌ: من وجب له القصاص فعفا عن القاتل؛ أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا. عن زيد بن أسلم والحسن.
          واختار الطبريُّ في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]أنَّه في تعظيم العقوبة وشدَّة الوعيد، واختار في قوله: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[المائدة:32]القول الأوَّل أنَّه من لم يقتل أحدًا فقد أحيا الناس بسلامتهم منه.
          قال: وهذا نظير قول الكافر: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:258]: أي: أترك من قدرت على قتله، وأميت، أي: أقتل من وجب عليه القتل، وإنَّما اختار ذلك؛ لأنَّه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضرر مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع، فدلَّ ذلك أنَّ معنى الإحياء سلامة جميع النفوس، وفي هذه الأحاديث كلِّها تغليظٌ للقتل والنهي عنه.
          وقوله في حديث ابن مسعودٍ: (إِلَّا كَانَ على ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا) يعني: إثمًا؛ لأنَّه أوَّل من سنَّ القتل، فاستنَّ به القاتلون بعده، وهذا نظير قوله صلعم: ((من سنَّ سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)).
          وقوله في حديث ابن عمر: (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا) لتحريم الدماء وحقوق الإسلام وحرمة المؤمنين، وليس يريد الكفر الذي هو ضدُّ الإيمان؛ لما تقدَّم من إجماع أهل السنَّة أنَّ المعاصي غير مخرجةٍ من الإيمان.
          وأمَّا قتل أسامة للرجل فإنَّه ظنَّه كافرًا، وجعل ما سمع منه من الشهادة تعوُّذًا من القتل، وأقلُّ أحوال أسامة في ذلك أن يكون قد أخطأ في فعله؛ لأنَّه إنَّما قصد إلى قتل كافرٍ عنده، ولم يكن عرف بحكم النبيِّ صلعم فيمن أظهر الشهادة بلسانه أنَّها تحقن دمه، فسقط عنه القود؛ لأنَّه معذورٌ بتأويله، وكذلك حكم كلِّ من تأوَّل فأخطأ في تأويله معذورٌ بذلك.
          وهو في حكم من رمى من يجب له دمه، فأصاب من لا يجب قتله أنَّه لا قود عليه، وما لقي أسامة من النبيِّ صلعم في قتله هذا الرجل الذي ظنَّه كافرًا من اللوم والتوبيخ حتَّى تمنَّى أنَّه لم يسلم قبل ذلك اليوم، آلى على نفسه ألَّا يقاتل مسلمًا أبدًا؛ ولذلك قعد عن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ يوم الجمل وصفِّين، وقد تقدَّم في كتاب الإيمان معنى قوله صلعم: (القَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ)، [خ¦31] وإنَّما خرج على الترهيب والتغليظ في قتل المؤمن فجعلهما في النار؛ لأنَّهما فعلا في تقاتلهما ما يؤول بهما إلى النار إن أنفذ الله سبحانه عليهما الوعيد، والله تعالى في وعيده بالخيار عند أهل السنَّة، وسيأتي أيضًا في كتاب الفتنة بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى [خ¦7083].


[1] في (ت): ((وفيه)).
[2] في (ت): ((قال ◙)).
[3] في (ت): ((قال ◙)).
[4] في (ت): ((ورجلًا)).
[5] في (ت): ((غشيناه)).
[6] قوله: ((قال)) ليس في (ت).
[7] في (ت): ((فقال)).
[8] في (ت): ((قال ◙)).
[9] في (ز) و(ت): ((و{كأنما})) والمثبت من التنزيل والمطبوع.
[10] في (ت): ((تغليظ الوزر والتعظيم في)).
[11] في (ت): ((الحسين)).
[12] قوله: ((لا)) ليس في (ت).
[13] في (ت): ((يسلم)).
[14] قوله: ((جميعًا)) ليس في (ت).