شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى:{أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف}

          ░6▒ باب: قَوْلِه تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية[المائدة:45]
          فيه عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَفارِقُ لدِّينِه التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ). [خ¦6878]
          قال أبو عبيدٍ: ذهب أهل العراق إلى أنَّ قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]ناسخةٌ لآية {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}[البقرة:178]التي في سورة البقرة، وجعلوا بين الأحرار والعبيد القصاص في النفس خاصَّةً، ولا يرون فيما دون ذلك بينهم قصاصًا.
          وذهب ابن عبَّاسٍ إلى أنَّ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]غير ناسخةٍ لآية البقرة، ولا مخالفة لها، ولكنَّهما جميعًا محكمتان إلَّا أنَّ ابن عبَّاسٍ رأى قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]كالمفسِّرة للتي في البقرة، فتأوَّل أنَّ قول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]إنَّما هو على أنَّ أنفس الأحرار متساويةٌ فيما بينهم دون العبيد، وأنَّهم يتكافؤون في دمائهم ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنَّ أنفس المماليك متساويةٌ فيما بينهم دون الأحرار، يتكافؤون فيما بينهم ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأنَّه لا قصاص على الأحرار في شيءٍ من ذلك من نفسٍ ولا من دونها؛ لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}[المائدة:45]وهذا قول مالكٍ وأهل الحجاز، وهو أولى من قول أهل العراق لوجهين: أحدهما أنَّ هذا تفسير ابن عبَّاسٍ. والوجه الثاني: أنَّه قولٌ يوافق بعضه بعضًا ولا يختلف، والتنزيل إنَّما هو على نسقٍ واحدٍ: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}[المائدة:45]. وقول أهل العراق ليس بمتَّفقٍ؛ لأنَّهم أخذوا بأوَّل الآية وهو قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]وتركوا ما وراء ذلك، وليس لأحدٍ أن يفرِّق بين ما جمع الله تعالى، فيأخذ بعضه دون بعضٍ إلَّا أن يفرِّق بين ذلك كتابٌ أو سنَّةٌ.
          وقوله صلعم: (الثَّيِّبُ الزَّانِي) لا يدخل فيه العبيد، وقد اتَّفق الكوفيُّون مع مالكٍ في أنَّ من شروط الإحصان الموجب للرجم عندهم: الحريَّة والبلوغ والإسلام؛ فإذا زنا العبد، وإن كان ذا زوجةٍ فحدُّه الجلد عندهم، فكما لم يدخل العبيد في قوله صلعم: (الثَّيِّبُ الزَّانِي) فكذلك لم يدخل في عموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45].
          وأمَّا قوله: (المَفَارِقُ لدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ) فهو عامٌّ في جميع الناس لإجماع الأمَّة أنَّ بالردَّة يجب القتل على كلِّ مسلمٍ فارق دينه عبدًا كان أو حرًّا، فخصَّ هذا بالإجماع.
          وقال أبو الحسن بن القابسيِّ قوله: (المَفَارِقُ لدِينِهِ) يريد الخارج منه، فيحتمل أن يكون خروجه بترك الجماعة أو ببغيٍ عليها؛ فيقاتل على ذلك حتَّى يفيء إلى دينه وإلى الجماعة، وليس بكافرٍ بخروجه، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا وارتدادًا، والمروق: الخروج، وسيأتي بيانه عند قوله ◙: ((يمرقون من الدين)) في آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى. [خ¦6930]