شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يقتل المسلم بالكافر

          ░31▒ باب: لا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.
          فيه أَبُو جُحَيْفَةَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مَّا لَيْسَ في الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأسِيرِ، وَأَنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [خ¦6915]
          ذهب جمهور العلماء إلى ظاهر هذا الحديث، وقالوا: لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ على وجه القصاص، روي ذلك عن عمر وعثمان وعليٍّ وزيد بن ثابتٍ، وبه قال جماعةٌ من التابعين، وهو مذهب مالكٍ والأوزاعيِّ والليث والثوريِّ والشافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، إلَّا أنَّ مالكًا والليث قالا: إن قتله غيلةً قتل به، وقتل الغيلة عندهم أن يقتله على ماله كما يصنع قاطع الطريق لا يقتله لثائرة ولا عداوة.
          وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى إلى أنَّه يقتل المسلم بالذمِّيِّ، ولا يقتل بالمستأمن والمعاهد، وهو قول سعيد بن المسيِّب والشَّعبيِّ والنخعيِّ، وحكم المستأمن والمعاهد عندهم حكم أهل الحرب.
          واحتجَّ الكوفيُّون بما رواه ربيعة عن ابن البيلمانيِّ: ((أنَّ رسول الله صلعم قتل رجلًا من المسلمين برجلٍ من أهل الذمَّة، وقال: أنا أحقُّ من وفَّى بذمَّته)).
          قال ابن المنذر: وهذا حديث منقطعٌ، وقد أجمع أهل الحديث على ترك المتَّصل من حديث البيلمانيِّ فكيف بالمنقطع؟! وقوله صلعم: ((لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ)) حجَّةٌ قاطعةٌ في هذا الباب لثباته عنه صلعم، فلا معنى لمن خالفه.
          واحتجَّ الكوفيُّون بالإجماع على أنَّ المسلم تقطع يده إذا سرق من مال ذمِّيٍّ؛ فنفسه أحرى أن تؤخذ بنفسه، وهذا قياسٌ حسنٌ لولا أنَّه باطلٌ بقوله صلعم: ((لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ)).
          فإن قالوا: قد قال صلعم: ((لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده))، يعني بكافرٍ؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ الإسلام يحقن الدم، والعهد يحقن الدم.
          قيل: بهذا الحديث علمنا أنَّ المعاهد يحرم دمه، وهي فائدة الخبر، ومحالٌ أن يأمر تعالى بقتل الكافر حيث وجد، ثمَّ يقول: إذا قتلوهم قتلوا بهم.
          والمعنى: لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ على العموم في كلِّ كافرٍ، ولا يقتل ذو عهدٍ في عهده قصَّةٌ أخرى، وهو عطفٌ على ((لا يقتل))؛ لأنَّ هذا الذي أضمر لو أظهر فقيل: لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ، ولا يقتل ذو عهدٍ في عهده(1)، ولو أفرد وحده فقيل: لا يقتل ذو عهدٍ، ولم يكن قبله كلامٌ لكان مستقيمًا، وإنَّما ضمَّ هذا الكلام إلى القصَّة التي قبلها _والله أعلم_ ليعلموا حين قيل لهم لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ أنَّهم نهوا عن قتل ذي العهد في عهده، فاحتمل ذلك في كلِّ ذي عهدٍ من أهل الذمَّة المقيمين في دار الإسلام، وفيمن دخل بأمانٍ، وهو في معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}[التوبة:6]، فأعلم الله ذلك عباده. قاله إسماعيل بن إسحاق وابن القصَّار.
          وأمَّا قول مالكٍ والليث أنَّ المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلةٍ قتل به، فمعنى ذلك أنَّ قتل الغيلة إنَّما هو من أجل المال، والمحارب والمغتال إنَّما يقتلان لطلب المال لا لعداوةٍ بينهما، فقتل العداوة والثائرة خاصٌّ وقتل المغتال عامٌّ فضرره أعظم؛ لأنَّه من أهل الفساد في الأرض، وقد أباح الله تعالى قتل الذين يسعون في الأرض فسادًا سواءٌ قتل أو لم يقتل، فإذا قتل فقد تناهى فساده، وسواءٌ قتل مسلمًا أو كافرًا أو حرًّا أو عبدًا.


[1] في (ز): ((عهد)) والمثبت من المطبوع.