شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القسامة

          ░22▒ باب: الْقَسَامَةِ.
          وَقَالَ الأشْعَثُ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ).
          وَقَالَ ابْنُ أبي مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وَكَانَ أَمَّرَهُ على الْبَصْرَةِ في قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ، إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً وَإِلَّا فَلا تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لا يُقْضَى فِيهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
          فيه سَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ: (أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ طرقوا إلى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا، وَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ: قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا، قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلا عَلِمْنَا قَاتِلا، فَانْطَلَقُوا إلى رَسُولِ الله صلعم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، انْطَلَقْنَا إلى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلًا، فَقَالَ: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَقَالَ لَهُمْ: تَأْتُونَي بِالْبَيِّنَةِ على مَنْ قَتَلَهُ، قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ، قَالَ: فَيَحْلِفُونَ، قَالُوا: لا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ). [خ¦6898]
          وَقَالَ أَبُو قِلابَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا، فقال: مَا تَقُولُونَ في الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: نَقُولُ: الْقَسَامَةُ الْقَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَ بِهَا الْخُلَفَاءُ، قَالَ لي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلابَةَ؟ وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رُؤُوسُ الأجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا على رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَا، لَمْ يَرَوْهُ أكنت تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا على رَجُلٍ منهم بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَوَاللهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم أَحَدًا قَطُّ إِلَّا في إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ.
          فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَطَعَ في السَّرَقِ وَسَمَرَ الأعْيُنَ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ في الشَّمْسِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا على رَسُولِ اللهِ صلعم فَبَايَعُوهُ على الإسْلامِ فَاسْتَوْخَمُوا الأرْضَ، فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فقَالَ: أَفَلا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا في إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وأَلْبَانِهَا؟! قَالُوا: بَلَى، فَخَرَجُوا، فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وأَلْبَانِهَا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَأَرْسَلَ في آثَارِهِمْ فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ في الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا، قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ؟! ارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ، وَقَتَلُوا وَسَرَقُوا؟ فَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ على حَدِيثِي يَا عَنْبَسَةُ؟ فقَالَ: لا، وَلَكِنْ حدثْتَ بِالْحَدِيثِ على وَجْهِهِ، وَاللهِ لا يَزَالُ هَذَا الْجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ في هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم، دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَإِذَا بِصَاحِبِهِمْ يَتشَحَّطُ في الدَّمِ، فَرَجَعُوا إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتشَحَّطُ في الدَّمِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم، فَقَالَ: بِمَنْ تَظُنُّونَ، أَوْ تَرَوْنَ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ، فَأَرْسَلَ إلى الْيَهُودِ فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ الْيَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟ فَقَالُوا: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ، قَالَ: أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ.
          قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ، فَأَخَذُوا الْيَمَانِيَّ فَرَفَعُوهُ إلى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ، وَقَالُوا: قَتَلَ صَاحِبَنَا، فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ، فَقَالَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوا، قَالَ: فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّامِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلًا آخَرَ فَدَفَعَهُ إلى أَخِي الْمَقْتُولِ فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَال: فَانْطَلَقنا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةٍ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فَدَخَلُوا في غَارٍ في الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ على الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ، فاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِي الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلًا ثُمَّ مَاتَ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، أَقَادَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ وَسَيَّرَهُمْ إلى الشَّامِ. [خ¦6899]
          اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فقالت طائفةٌ: القسامة ثابتةٌ عن رسول الله صلعم يبدأ فيها المدَّعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقُّوا، وإن نكلوا حلف المدَّعى عليهم خمسين يمينًا وبرئوا، هذا قول أهل المدينة: يحيى بن سعيدٍ وأبي الزناد وربيعة ومالكٍ والليث والشافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ.
          واحتجُّوا في ذلك بما رواه البخاريُّ في كتاب الجزية والموادعة عن بشير بن يسارٍ، عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهلٍ ومُحيِّصة بن مسعود بن زيدٍ إلى خيبر، وهي يومئذٍ صلحٌ، فتفرَّقا، فأتى محيِّصة إلى عبد الله بن سهلٍ وهو يتشحَّط في دمه قتيلًا، فدفنه ثمَّ قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهلٍ ومحيِّصة وحُويِّصة ابنا مسعودٍ إلى النبيِّ صلعم، فذهب عبد الرحمن يتكلَّم، فقال: ((كبِّر، كبِّر))، وهو أحدث القوم، فسكت، فتكلَّما فقال: ((تحلفون وتستحقُّون قاتلكم، أو صاحبكم؟)) قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: ((فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا؟)) قالوا: كيف نأخذ أيمان قومٍ كفَّارٍ؟! فعقله النبيُّ صلعم من عنده، وقال حمَّاد بن زيدٍ: عن يحيى بن سعيدٍ مثله.
          فثبت في هذا الحديث تبدئة المدَّعين للدم باليمين.
          وذهبت طائفةٌ إلى أنَّه يبدأ بالأيمان المدَّعى عليهم فيحلفون ويُذَرون، روي هذا عن عُمَر بن الخطَّاب وعن الشَّعبيِّ والنخعيِّ، وبه قال الثوريُّ والكوفيُّون، واحتجُّوا بحديث سعيد بن عبيدٍ عن بشير بن يسارٍ أنَّ النبيَّ صلعم قال للأنصار: ((تأتون بالبيِّنة على من قتله))، قالوا: ما لنا بيِّنةٌ، قال: ((فيحلفون لكم))، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، قالوا: فبدأ بالأيمان المدَّعى عليهم وهم اليهود.
          واحتجُّوا أيضًا بما رواه ابن جُريحٍ عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبَّاسٍ أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى قومٌ دماء قومٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدَّعى عليه)).
          وفيها قولٌ ثالثٌ: وهو التوقُّف عن الحكم بالقسامة، روي هذا عن سالم بن عبد الله وأبي قِلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عُتَيْبة(1).
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى، فقالوا: حديث سعيد بن عبيدٍ في تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث؛ لأنَّ جماعةً من أهل الحديث أسندوا حديث بشير بن يسارٍ عن سهلٍ: ((أنَّ النبيَّ صلعم بدَّأ المدَّعين)).
          قال الأَصِيليُّ: أسنده عن يحيى بن سعيدٍ شعبة وسفيان بن عيينة وعبد الوهاب الثقفيُّ وحمَّاد بن زيدٍ وعيسى بن حمَّادٍ وبشر بن المفضَّل، وهؤلاء ستَّةٌ، وأرسله مالكٌ عن يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ، ولم يذكر سهل بن أبي(2) حثمة.
          وقال أحمد بن حنبلٍ: الذي أذهب إليه في القسامة، حديث يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ، فقد وصله عنه حفَّاظٌ، وهو أصحُّ من حديث سعيد بن عبيدٍ.
          قال الأَصِيليُّ: فلا يجوز أن يعترض بخبرٍ واحدٍ على خبر جماعةٍ مع أنَّ سعيد بن عبيدٍ قال في حديثه: ((فوداه رسول الله صلعم من إبل(3) الصدقة))، والصدقة لا تعطى في الديات، ولا يصالح بها عن غير أهلها.
          قال ابن القصَّار والمُهَلَّب: وقد يجوز الجمع بين حديث سعيد بن عبيدٍ ويحيى بن سعيدٍ، فيحتمل أن يقول النبيُّ صلعم للأنصار أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه بعد علمه صلعم أنَّ الأنصار قد نكلوا عن اليمين؛ لأنَّهم لم يعينوا أحدًا من اليهود فيُقْسِمون عليه، والقسامة لا تكون إلَّا على معيَّنٍ، فلمَّا علم نكولهم ردَّ اليمين، وفي حديث يحيى بن سعيدٍ حين نكل محيِّصة وحويِّصة وعبد الرحمن، فقال لهم: ((فيبرئكم يهود)) بعد أن قال لهم: ((تحلفون خمسين يمينًا وتستحقُّون دم صاحبكم)). وقد روى ابن جُريجٍ عن عطاءٍ عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((البيِّنة على مَنِ ادَّعى واليمين على من أنكر إلَّا في القسامة))، فتبيَّن أنَّ اليمين في القسامة لا يكون في جهة المدَّعى عليه، وقد احتجَّ مالكٌ في «الموطَّأ» لهذه المسألة بما فيه الكفاية، فقال: إنَّما فرَّق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أنَّ الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقِّه، وأنَّ الرجل إذا قتل الرجل لم يقتله في جماعةٍ من الناس وإنَّما يلتمس الخلوة، فلو لم تكن القسامة إلَّا فيما تثبت فيه البيِّنة، وعمل فيها كما يعمل في الحقوق بطلت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها.
          ولكن إنَّما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون بها ليكفَّ الناس عن الدم، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول، وهذا الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعت ممَّن أرضى، والذي اجتمعت عليه الأئمَّة في القديم والحديث أن يبدأ المدَّعون.
          فإن قالوا: إنَّ النبي صلعم إنَّما قال: ((تحلفون وتستحقُّون دم صاحبكم)) على وجه الاستعظام لذلك والإنكار عليهم والتقرير، لا على وجه الاستفهام لهم.
          فالجواب: أنَّه لا يجوز أن يزيد الإنكار عليهم أصلًا، وذلك أنَّ القوم لم يطلبوا اليمين فينكر ذلك عليهم، وإنَّما ادَّعوا الدم، فبدأهم وقال لهم صلعم: ((أتحلفون))، فعلم أنَّه شرع لهم اليمين؛ وعلَّق استحقاق الدم بها، وإنَّما كان يكون منكرًا عليهم لو بدؤوا وقالوا: نحن نحلف.
          وأمَّا الذين أبطلوا الحكم بالقسامة فإنَّهم ردُّوها بآرائهم لخلافها عندهم قوله صلعم: ((البيِّنة على المدَّعي واليمين على المدَّعى عليه))، وهو خصَّ القسامة بتبدئة المدَّعين بالأيمان وسنَّه لأمَّته، وقد كانت القسامة في الجاهليَّة خمسين يمينًا على الدماء، فأقرَّها رسول الله صلعم فصارت سنَّةً، بخلاف الأموال التي سنَّ فيها يمينًا واحدةً، والأصول لا يردُّ بعضها ببعضٍ ولا يقاس بعضها على بعضٍ، بل يوضع كلُّ واحدٍ منها موضعه، كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقراض مع الإجارات، وعلى المسلمين التسليم في كلِّ ما سنَّ لهم.
          قال ابن القصَّار: فإن قيل: كيف يحلف الأولياء وهم غيَّبٌ عن موضع القتل؟ قيل: اليمين تكون تارةً على وجه اليقين وتارةً على وجه الاستدلال، كالشهادة تكون بيقينٍ وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة، وأنَّ هذه زوجة فلانٍ، وهذا باستدلالٍ كما يدَّعي الوارث لابنه دينًا على رجلٍ من حساب أبيه، فيحلف كما يحلف على يقينٍ، وذلك على ما ثبت عنده بإخبار من يصدِّقه، وليس أحدٌ من العلماء يجيز لأحدٍ أن يحلف على ما لا يعلم أو يشهد بما لم يعلم، ولكنَّه يحلف على ما لم يحضر إذا صحَّ عنده وعلمه بما يقع العلم بمثله.
          وقيل لابن المسيِّب: أعجب من القسامة؛ يأتي الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول ويقسم.
          قال: قضى رسول الله صلعم بالقسامة في قتيل خيبر، ولو علم أنَّ الناس يجترئون عليها ما قضى بها.
          وروي عن معمرٍ عن الزهريِّ قال: دعاني عُمَر بن عبد العزيز فقال: إنِّي أريد أن أدع القسامة، يأتي رجلٌ من أرض كذا، وآخر من أرض كذا فيحلفون، فقلت له: ليس كذلك، قضى بها رسول الله صلعم والخلفاء بعده، إن تركتها أوشك رجلٌ أن يُقتَل عندنا فيبطل دمه، وإنَّ للناس في القسامة حياةً.
          وأمَّا قول ابن أبي مليكة: (إنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يُقِدْ بِالقِسَامَةِ)، فلا حجَّة فيه مع خلاف السنَّة له والخلفاءِ الراشدين الذين أقادوا بها، وقد صحَّ عن معاوية أنَّه أقاد بالقسامة، وذكر ذلك أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قال: وقال لي خارجة بن زيد بن ثابتٍ: نحن والله قتلنا بالقسامة، وأصحاب رسول الله صلعم متوافرون إنِّي لأرى يومئذٍ ألف رجلٍ أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان في ذلك.
          وقال أبو الحسن بن القابسيِّ: والعجب من عُمَر بن عبد العزيز على مكانته في العلم، كيف لم يعارض أبا قِلابة في قوله وليس أبو قِلابة من فقهاء التابعين!
          قال المؤلِّف: وقد روى حمَّاد بن سلمة عن عبد الله بن أبي مليكة: أنَّ عُمَر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمارته على المدينة.
          قال المُهَلَّب: وما اعترض به أبو قِلابة من حديث العرنيِّين، لا اعتراض فيه على القسامة بوجهٍ من الوجوه؛ لجواز قيام البيِّنة والدلائل التي لا دفع لها على تحقيق الجناية على العرنيِّين، وليس هذا من طريق القسامة في شيءٍ؛ لأنَّ القسامة إنَّما تكون في الدعاوي، والاختفاء بالقتل حيث لا بيِّنة ولا دليل، وأمر العرنيِّين كان بين ظهراني الناس وممكنٌ فيه الشهادة؛ لأنَّ العرنيِّين كشفوا وجوههم لقطع السبيل، والخروج على المسلمين بالقتل واستياق الإبل، فقامت عليهم الشواهد البيِّنة فأمرهم غير أمر من ادَّعى عليه بالقتل، ولا شاهد يقوم عليه.
          وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يُعارض به ما تقدَّم من السنَّة في القسامة، وليس رأي أبي قِلابة حجَّةً على جماعة التابعين، ولا تردُّ بمثله السنن، وكذلك محو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا؛ لا حجَّة فيه على إبطال القسامة؛ وإنَّما ذكر البخاريُّ هذا كلَّه بلا إسنادٍ، وصدَّر به كتاب القسامة؛ لأنَّ مذهبه تضعيف القسامة، ويدلُّ على ذلك أنَّه أتى بحديث القسامة في غير موضعه، وذكر في كتاب الجزية والموادعة، واختلفوا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفةٌ القود بها، روي هذا عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهريِّ وربيعة وأبي الزناد، وبه قال مالكٌ والليث وأحمد وأبو ثورٍ.
          واحتجُّوا بحديث يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ أنَّه قال صلعم للأنصار: ((تحلفون وتستحقُّون دم قاتلكم)) وهذا يوجب القود.
          وقالت طائفةٌ: لا قود بالقسامة وإنَّما توجب الدية، روي هذا عن عُمَر بن الخطَّاب وابن عبَّاسٍ، وهو قول النَّخَعِيِّ والحسن، وإليه ذهب الثوريُّ والكوفيُّون والشافعيُّ وإسحاق، واحتجُّوا بما رواه مالكٌ، عن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حثمة، وهو قوله صلعم للأنصار: ((إمَّا إن تدوا صاحبكم أوتأذنوا بحربٍ))، وهذا يدلُّ على الدية لا على القود.
          وقالوا: ومعنى قوله صلعم في حديث يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ: ((تستحقُّون دم صاحبكم)) يعني به: دم قتيلكم؛ لأنَّ اليهود ليس بصاحبٍ لهم، فإذا جاز أن يضمروا فيه؛ جاز أن يضمر فيه دية دم صاحبكم.
          فكان من حجَّة أهل المقالة الأولى عليهم أن قالوا: إنَّ قوله صلعم: ((إمَّا أن تدوا صاحبكم)) معارضٌ لقوله: ((تستحقُّون دم صاحبكم))، فلمَّا تعارض اللفظان وجب طلب الدليل على أيِّ المعنيين أولى بالصواب، فوجدنا قوله صلعم: ((إمَّا أن تدوا صاحبكم)) انفرد به أبو ليلى في حديثه. وقد قال أهل الحديث: إنَّ أبا ليلى لم يسمع هذا الحديث من سهل بن أبي حثمة.
          وقيل: إنَّه مجهولٌ لم يرو عنه غير مالكٍ، ولم يرو عنه مالكٌ غير هذا الحديث.
          وقد اتَّفق جماعةٌ من الحفَّاظ على يحيى بن سعيدٍ في هذا الحديث وقالوا فيه: ((تستحقُّون دم قاتلكم))، يعني يُسَلَّم إليكم القتيل؛ لأنَّه لم يقل: وتستحقُّون دية دم صاحبكم، والدليل على ذلك أنَّهم كانوا ادَّعوا قتل عمدٍ لا قتل خطأٍ، والذي يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك وليُّ القتيل.
          وروى حمَّاد بن زيدٍ عن يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ، عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديجٍ أنَّ النبيَّ صلعم قال للأنصار: ((يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم فيدفع بِرُمَّته)) وهذه حجَّةٌ قاطعةٌ، وهذا الحديث يبيِّن أنَّ قوله صلعم: ((دم صاحبكم)) معناه: القاتل؛ لأنَّه صاحبهم الذي قتل وليَّهم، وقد يصحُّ أن يقولوا: هذا صاحبنا الذي ادَّعينا عليه أنَّه قتل وليَّنا.
          ويجوز أن يكون معناه وتستحقُّون دم قاتل صاحبكم؛ لأنَّه من ادَّعى إثبات شيءٍ على صفةٍ وحقَّقه بيمينه فإنَّ الذي يجب له هو الشيء الذي حقَّقه بيمينه على صفته، فلو ادَّعى إتلاف عبدٍ أو دابَّةٍ أو ثوبٍ، وحلف عليه بعد نكول المدَّعى عليه حكم له بما ادَّعاه على صفته، ولم يجب له سواه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[البقرة:179]فأخبر تعالى أنَّ القود هو الذي يحيي النفوس؛ لأنَّ القاتل إذا علم أنَّه يقتل انزجر عن القتل، وكفَّ عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية.
          والناس في وجوب القسامة على معنيين، فقومٌ اعتبروا اللوث فهم يطلبون ما يغلب على الظنِّ، ويكون شبهةً يتطرَّق بها إلى حراسة الدماء، ولم يطلب أحدٌ في القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البتَّ، وإنَّما طلبوا شبهةً وسمَّوها لطخةً؛ لأنَّه يلطخ المدَّعى عليه بها، وبهذا قال مالكٌ والليث والشافعيُّ، إلَّا أنَّهم اختلفوا في اللوث، فذهب مالكٌ في رواية ابن القاسم عنه أنَّ اللوث الشاهد العدل، وروى عنه أشهب غير العدل.
          وذهب الشافعيُّ إلى أنَّه الشاهد العدل، وأن يأتي ببيِّنةٍ مقترنةٍ وإن لم يكونوا عدولًا. قال: وكذلك لو دخل بيتًا مع قومٍ لم يكن معهم غيرهم، أو أن تكون جماعةٌ في صحراء فيفترقون عن قتيلٍ، أو يوجد قتيلٌ وإلى جنبه رجلٌ معه سكِّينٌ مخضوبةٌ بالدَّم، وليس ثمَّ أثر سبعٍ ولا قدم إنسانٍ آخر، ولا يقبل الشافعيُّ قول المقتول: دمي عند فلانٍ، قال: لأنَّ السنَّة المجتمع عليها أنَّه لا يعطى أحدٌ بدعواه شيئًا.
          وعند مالكٍ والليث أنَّ القسامة تجب باللوث أو بقول المقتول: دمي عند فلانٍ. وقد تقدَّم بيان هذه المسألة في باب إذا قتل بحجرٍ أو بِعَصًا [خ¦6877]، وقومٌ أوجبوا القسامة والدية بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، هذا قول الثوريِّ والكوفيِّين، ولا قسامة عندهم إلَّا في القتيل يوجد في المحلَّة خاصَّةً، قالوا: فإذا وجد قتيلًا في محلَّة قومٍ وبه أثرٌ؛ حلف أهل الموضع أنَّهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثرٌ لم يكن على العاقلة شيءٌ، وهذا لا سلف لهم فيه.
          وحديث يحيى بن سعيدٍ عن بشير بن يسارٍ خلاف قول الكوفيِّين؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل في محلَّتهم، ولم يطالبهم بها بل أدَّاها من عنده، ولو وجبت الدية على أهل المحلَّة لأوجبها صلعم على اليهود، وأمَّا اشتراطهم أن يكون به أثرٌ فليس بشيءٍ؛ لأنَّه قد يقتل بما لا أثر به.
          قال ابن المنذر: والعجب من الكوفيِّين أنَّهم ألزموا العاقلة مالًا بغير بيِّنةٍ ثبتت عليهم ولا إقرار منهم به، ثمَّ أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمدٍ لا تثبت ببيِّنةٍ ولا إقرارٍ؛ لأنَّ الدعوى التي ادَّعاها المدَّعي لو ثبتت البيِّنة لم يلزم ذلك العاقلة، فكيف يجوز أن يلزموه بغير بيِّنةٍ والخطأ محيطٌ بهذا القول من كلِّ وجهٍ.
          وذهب مالكٌ والليث والشافعيُّ إلى أنَّ القتيل إذا وجد في محلَّة قومٍ فهو هدرٌ، لا يؤخذ به أقرب الناس دارًا ولا غيره؛ لأنَّ القتيل قد يقتل ثمَّ يُلقَى على باب قومٍ ليلطخوا به، فلا يؤخذ أحدٌ بمثل ذلك، وقد قال عُمَر بن عبد العزيز: هذا ممَّا يؤخَّر فيه القضاء حتَّى يقضي الله فيه يوم القيامة.
          وقال القاسم بن مسعدة: قلت للنسائيِّ: مالكٌ لا يقول بالقسامة إلَّا بلوث، فلِمَ أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائيُّ: أنزل مالكٌ العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميِّت بمنزلة العداوة.
          وقال الشافعيُّ: إذا كان من السبب الذي حكم فيه رسول الله صلعم وجبت القسامة، كانت خيبر دار يهود محضةً، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرةً، وخرج عبد الله بن سهلٍ بعد العصر فوجد قتيلًا قبل الليل، فكاد يغلب على من سمع هذا أنَّه لم يقتله إلَّا بعض اليهود. وكذلك قال أحمد: إذا كان بين القوم عداوةٌ كما كان بين أصحاب النبيِّ صلعم وبين اليهود.
          ووجه قول مالكٍ أنَّ قول المقتول تجب به القسامة، أنَّ الغالب من الإنسان أنَّه يتخوَّف عند الموت ويجهد في التخلُّص من المظالم، ويرغب فيما عند الله تعالى، ويحدث توبةً ولا يقدم على دعوى القتل ظلمًا، فصار أقوى من شهادة الشاهد، وأقوى من قول الشافعيِّ أنَّ الوليَّ يقسم إذا كان بقرب وليِّه وهو مقتولٌ ومع الرجل سكِّينٌ؛ لأنَّه يجوز أن يكون غيره قتله، فضعَّف هذا اللوث، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه، وهو قول المقتول: دمي عند فلانٍ.
          قال ابن أبي زيدٍ: وأصل هذا في قصَّة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب بالبقرة، وقال: قتلني فلانٌ، فهذا يدلُّ على قبول قول المقتول: دمي عند فلانٍ؛ لأنَّه كان في شرع بني إسرائيل، وسواءٌ كان قبل الموت أو بعده.
          واختلفوا في العدد الذين يحلفون ويستحقُّون الدم، فقال مالكٌ: لا يقسم في قتل العمد إلَّا اثنان فصاعدًا تردُّ الأيمان عليهما حتَّى يحلفا خمسين يمينًا، وذلك الأمر عندنا، والحجَّة أنَّ النبيَّ صلعم عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعةٍ، فقال: ((أتحلفون وتستحقُّون)) وأقلُّ الجماعة اثنان فصاعدًا.
          وقال الليث: ما سمعت أحدًا ممَّن أدركت يقول أنَّه يقتصر على أقلَّ من ثلاثةٍ.
          وقال الشافعيُّ: إذا ترك وارثًا استحقَّ الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينًا.
          واحتجَّ له أبو ثورٍ: فقال: قد جعل الله للأولياء أن يقسموا، فإن لم يكن إلَّا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلَّا ابنةٌ وهي مولاته حلفت خمسين يمينًا، وأخذت الكلَّ: النصف بالنسب والنصف بالولاء.
          قال ابن المنذر: وفي قوله: ((تستحقُّون)) دليلٌ على أن لا يمين لغير مستحقٍّ، وعلى ألَّا يحلف إلَّا وارثٌ.
          وفي الحديث من الفقه: أن يسمع حجَّة الخصم على الغائب، وفيه أنَّ أهل الذمَّة إذا منعوا حقًّا رجعوا حربًا. وفيه مقاتلة من منع حقًّا حتَّى يؤدِّيه، وفيه أنَّ من صحَّ عنده أمرٌ ولم يحضره أنَّ له أن يحلف عليه؛ لأنَّ النبيَّ صلعم عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر، وفيه وجوب ردِّ اليمين على المدَّعي في الحقوق.
          واختلف العلماء في ذلك، فقالت طائفةٌ: إنَّه من ادَّعى حقًّا على آخر ولا بيَّنة له فالقول قول المدَّعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن لم يحلف رُدَّت اليمين على المدَّعي، فإن حلف استحقَّ، وإن لم يحلف فلا شيء له، روي هذا عن عُمَر بن الخطَّاب وعثمان بن عفَّان، وهو قول شريحٍ والشَّعبيِّ والنخعيِّ، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ وأبو ثورٍ.
          وذهب الكوفيُّون أنَّ المدَّعى عليه إن لم يحلف لزمه الحقُّ ولا تردُّ اليمين على المدَّعي، وكان أحمد لا يرى ردَّ(4) اليمين، وحجَّتهم في ذلك أنَّ النبيَّ صلعم حكم بالبيِّنة على المدَّعي واليمين على المدَّعى عليه، فلمَّا لم يجز نقل حجَّة المدَّعي وهي البيِّنة عن الموضع الذي جعلها فيه النبيُّ صلعم إلى جهة المدَّعى عليه، كذلك لم يجز نقل حجَّة المدَّعى عليه وهي اليمين إلى المدَّعي؛ لأنَّ قوله ◙: ((اليمين على المدَّعى عليه)) إيجابٌ عليه أن يحلف، فإذا امتنع ممَّا يجب عليه أخذه الحاكم بالحقِّ. هذا قول ابن أبي ليلى وغيره من أهل العلم.
          واحتجَّ أهل المقالة الأولى بحديث القسامة، وقالوا: إنَّ النبيَّ صلعم جعل اليمين في جهة المدَّعي بقوله للأنصار: ((تحلفون وتستحقُّون دم صاحبكم))، فلمَّا أبوا حوَّلها إلى اليهود ليبرؤوا بها، فلمَّا وجدنا في سنَّته صلعم أنَّ المدَّعي قد تنتقل إليه اليمين في الدماء _وحرمتها أعظم_ جعلناها عليه في الحقوق لنأخذ بالأوثق.
          قال ابن القصَّار: والمدَّعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته وصار متَّهمًا، وقويت جهة المدَّعي؛ لأنَّ الظاهر صار معه، فوجب أن تصير اليمين في جهته لقوَّة أمره.
          وقد احتجَّ الشافعيُّ على الكوفيِّين فقال: ردُّ اليمين في كتاب الله ╡ في آية اللعان أيضًا، وذلك أنَّ الله تعالى جعل اليمين على الزوج القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء، وجعل له بيمينه البراءة من حدِّ القذف، وأوجب الحدَّ على الزوجة إن لم تلتعن، فهذه يمينٌ رُدَّت على مدَّعٍ كانت عليه البيِّنة في رميه زوجته، فكيف ينكر من له فهمٌ وإنصافٌ ردَّ اليمين على المدَّعي.
          وقال ابن القصَّار: قد ذكر الله ╡ في كتابه ردَّ اليمين على المدَّعي الصادق؛ فقال لنبيِّه صلعم: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}[يونس:53]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}[التغابن:7]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}[سبأ:3]واحتجَّ أيضًا بقوله تعالى: {أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ على وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}[المائدة:108]وقال أهل التفسير: يعني تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء.
          والتشحُّط: الاضطراب في الدم.
          وقوله: (أَتَرْضَوْنَ نَفْلَ خَمْسِينَ) قال صاحب «العين»: يقال: انتفلت من الشيء انتفيت منه، فنفل اليهود هو أيمانهم أنَّهم ما قتلوه وانتفاؤهم عن ذلك.
          فإن قال قائلٌ: قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة، فرواه سعيد بن عبيدٍ عن بشير بن يسارٍ: ((فوداه النبيُّ صلعم مائةً من إبل الصدقة))، ورواه سائرٌ الرواة عن يحيى بن سعيدٍ، عن بشير بن يسارٍ: ((فوداه رسول الله صلعم من عنده))، فما وجه هذا الاختلاف، وإبل الصدقة للفقراء والمساكين، ولا تؤدَّى في الديات، فما وجه تأديتها عن اليهود؟
          فالجواب: أنَّ رواية من روى: ((فوداه رسول الله صلعم من عنده))، تفسير رواية من روى: ((دفع من إبل الصدقة))، وذلك أنَّ النبيَّ صلعم لما عرض الحكم في القسامة على ولاة الدم بأن يحلفوا ويستحقُّوا الدم من اليمين ثمَّ نفلهم إلى أن تحلف لهم يهود ويبرؤوا من المطالبة بالدم.
          قالوا: كيف نأخذ أيمان قومٍ كفَّارٍ، وتعذَّر إنفاذ الحكم، خشي صلعم أن يبقى في نفوس الأنصار ما تُتَّقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حينٍ، فرأى النبيُّ صلعم من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم، ووداه من عنده، وتسلَّف ذلك من إبل الصدقة حتَّى يؤدِّيها ممَّا يفيء الله عليه من خُمس المغنم؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يكن يجتمع عنده ممَّا يصير له في سهمانه من الإبل ما يبلغ مائةً لإعطائه لها وتفريقها على أهل الحاجة لقوله: ((ما لي ممَّا أفاء الله عليكم إلَّا الخمس وهو مردودٌ فيكم)) فمن روى ((من إبل الصدقة)) أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه، والذي روى ((من عنده)) علم وجه القصَّة وباطنها، فلم يذكر إبل الصدقة، وكان في غرم النبيِّ صلعم لها صلحًا عن اليهود وجهان من المصلحة: أحدهما: أنَّه عوَّض أولياء الدم دية قتيلهم، فسكن بذلك بعض ما في نفوسهم وقطع العداوة بينهم وبين اليهود. والثاني: أنَّه استألف اليهود بذلك وكان حريصًا على إيمانهم صلعم.


[1] في (ز): ((عيينة)) والمثبت من المطبوع.
[2] قوله: ((أبي)) ليس في (ز) والمثبت من المطبوع.
[3] في (ز): ((أهل)) والمثبت من المطبوع.
[4] قوله: ((رد)) ليس في (ز) والمثبت من المطبوع والتوضيح لابن الملقن.