شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إثم من قتل ذميًا بغير جرم

          ░30▒ باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جُرْمٍ.
          فيه عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرٍو: عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا). [خ¦6914]
          قال المُهَلَّب: هذا دليلٌ أنَّ المسلم إذا قتل الذمِّيَّ فلا يقتل به؛ لأنَّ النبيَّ صلعم إنَّما ذكر الوعيد للمسلم وعظَّم الإثم فيه في الآخرة، ولم يذكر بينهما قصاصًا في الدنيا، وسيأتي الخلاف في هذه المسألة في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى. [خ¦6915]
          وقوله صلعم: (لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) معناه معنى الوعيد، وليس على الحتم والإلزام، وإنَّما هذا لمن أراد الله ╡ إنفاذ الوعيد عليه.
          قال أبو عبيدٍ: (لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)، ويُرِحْ ويَرَحْ من أَرَحْتُ، قال أبو حنيفة: أَرَحْتُ الرائحة وأَرْوَحْتُها ورِحْتُها إذا وجدتها.
          فإن قال قائلٌ: ما معنى قوله صلعم: (وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)، وقد روى شعبة عن الحكم بن عُتَيْبة، سمعت مجاهدًا يحدِّث عن عبد الله بن عَمْرٍو، عن النبيِّ صلعم قال: ((من ادَّعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها يوجد من قدر مسيرة سبعين عامًا))، وقد جاء في «الموطَّأ»: ((كاسياتٌ عارياتٌ، لا يدخلن الجنَّة ولا يجدن ريحها، وإنَّ ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عامٍ))، فما وجه اختلاف المدد في وجود ريح الجنَّة؟
          قيل: يحتمل _والله أعلم_ أن تكون الأربعون هي أقصى أشدِّ العمر في قول أكثر أهل العلم، فإذا بلغها ابن آدم زاد عمله ويقينه، واستحكمت بصيرته في الخشوع لله تعالى والتذلُّل له والندم على ما سلف له، فكأنَّه وجد ريح الجنَّة التي تبعثه على الطاعة وتمكِّن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنَّة، فهذا وجد ريح الجنَّة على مسيرة أربعين عامًا.
          وأمَّا من وجد ريحها من مسيرة سبعين عامًا فإنَّها آخر المعترك، وهي أعلى منزلةً من الأربعين في الاستبصار، ويعرض للمرء عندها من الخشية والندم لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بتوفيق الله، فيجد ريح الجنَّة على مسيرة سبعين عامًا.
          وأمَّا وجه الخمسمائة عامٍ فهي فترة ما بين نبيٍّ ونبيٍّ، فيكون من جاء في آخر الفترة واهتدى باتِّباع النبيِّ صلعم الذي كان قبل الفترة، ولم يضرَّه طولها فوجد ريح الجنَّة على مسيرة خمسمائة عامٍ، والله أعلم.