شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قتل بحجر أو بعصًا

          ░5▒ باب: إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا.
          فيه أَنَسٌ قَالَ: (خَرَجَتْ(1) جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ، فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إلى النَّبيِّ صلعم وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم: فُلانٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا قَالَ: فُلانٌ قَتَلَكِ؟ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا في الثَّالِثَةِ: فُلانٌ قَتَلَكِ؟ فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَتَلَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ). [خ¦6877]
          وترجم له: باب من أقاد بالحجر.
          اختلف العلماء في صفة القود؛ فقال مالكٌ: إنَّه يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتله بِعصًا أو بحجرٍ أو بالخنق أو بالتغريق؛ قتل بمثله. وبه قال الشافعيُّ: إن طرحه في النار عمدًا حتَّى مات طرح في النار حتَّى يموت. وذكره الوقَّار في «مختصره» عن مالكٍ، وهو قول محمَّد بن عبد الحكم، وقال ابن الماجِشون: يقتل بالعصا وبالخنق وبالحجر ولا يقتل بالنار.
          وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأيِّ وجه قَتل فلا يُقتَل إلَّا بالسيف. وهو قول النَّخَعِيِّ والشَّعبيِّ.
          واحتجُّوا بحديث جابرٍ: أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((لا قود إلَّا بحديدةٍ)). وبقول ابن عبَّاسٍ حين بلغه أنَّ عليًّا حرَّق قومًا بالنار، فقال: لو كنت أنا لقتلتهم. فإنِّي سمعت النبيَّ صلعم يقول: ((لا يعذِّب بالنار إلَّا ربُّ النار)).
          وحجَّة القول الأوَّل: القرآن والسنَّة، فأمَّا القرآن: فقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النحل:126]وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة:194]فجعل تعالى لوليِّ المقتول أن يقتل بمثل ما قُتِل به وليُّه.
          وأمَّا السنَّة: فحديث أنس: ((أنَّ يهوديًّا رضَّ رأس جاريةٍ بين حجرين، فرضَّ النبيُّ صلعم رأسه بين حجرين)).
          وأمَّا قوله: ((لا قود إلَّا بحديدةٍ)) معناه إذا قتل بحديدةٍ؛ بدليل حديث أنسٍ.
          فإن قيل: إنَّ خبر اليهوديِّ مع الجارية لا حجَّة لكم فيه؛ لأنَّ المرأة كانت حيَّةً، والقود لا يجب في حيٍّ.
          قيل: إنَّما قتله النبيُّ صلعم بعد موتها؛ لأنَّ في الحديث (أنَّ النَّبيَّ صلعم قال لها: فُلاَنٌ قَتَلَكِ؟) فدلَّ أنَّها ماتت ساعتئذٍ؛ لأنَّها سيقت إلى النَّبيِّ صلعم وهي تجود بنفسها، فلم تقدر إلَّا على الإشارة على النطق، فلمَّا ماتت استقاد لها النبيُّ صلعم من اليهوديِّ بالحجر، فكان ذلك سنَّةً لا يجوز خلافها.
          واختلف قول مالكٍ إن لم يمت من ضربةٍ واحدةٍ بِعصًا أو حجرٍ، فروى عنه ابن وهبٍ أنَّه يضرب بالعصا حتَّى يموت، ولا يُطَوَّل عليه، وروى عنه أشهب وابن نافعٍ أنَّه يقتل بمثل ما قتل به، إذا كانت الضربة مجهزةً، فأمَّا أن يضربه ضرباتٍ فلا.
          قال ابن المنذر: وقول كثيرٍ من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف ذلك محمَّد بن الحسن فقال: لو خنق رجلٌ رجلًا حتَّى مات، أو طرحه في بئرٍ فمات، أو ألقاه من جبلٍ أو سطحٍ فمات لم يكن عليه قصاصٌ، وكان على عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك قد خنق غير واحدٍ فعليه القتل.
          قال ابن المنذر: ولمَّا أقاد النبيُّ صلعم من اليهوديِّ الذي رضَّ رأس الجارية بالحجر، كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.
          قال الطحاويُّ: واحتجَّ بهذا الحديث من قال فيمن يقول عند موته: إن متُّ ففلانٌ قتلني؛ أنَّه يقبل منه، ويقتل الذي ذكر أنَّه قتله؛ هذا قول مالكٍ والليث.
          وخالفهم آخرون فقالوا: لا يجوز أن يقتل أحدٌ بمثل هذا، وإنَّما قتل النبيُّ صلعم اليهوديَّ الذي رضَّ رأس الجارية، لأنَّه اعترف؛ فقتله بإقراره بما ادُّعِيَ عليه لا بالدعوى، وقد بيَّن ذلك ما أجمعوا عليه، ألا ترى أنَّ رجلًا لو ادَّعى على رجلٍ دعوًى، قتلًا أو غيره، فسئل المدَّعى عليه عن ذلك فأومأ برأسه أي نعم؛ أنَّه لا يكون بذلك مقرًّا، فإذا كان إيماء المدَّعى عليه برأسه لا يكون إقرارًا منه كان إيماء المدَّعي برأسه أحرى أن لا يوجب له حقًّا.
          وقد أجمعوا أنَّ رجلًا لو ادَّعى في حال موته أنَّ له عند رجل درهمًا ثمَّ مات أنَّ ذلك غير مقبولٍ منه، وأنَّه في ذلك كهو في دعواه في حال الصحَّة، فالنظر على ذلك أن يكون دعواه الدم في تلك الحال كدعواه ذلك في حال الصحَّة.
          وقال لهم أهل المقالة الأولى: قول المقتول: دمي عند فلانٍ، في حال تخوُّفه الموت، ووقت إخلاصه وتوبته إلى الله ╡ عند معاينته فراقه الدنيا؛ أقوى من قولكم في إيجاب القسامة بوجود القتيل فقط في محلَّة قومٍ وبه أثرٌ، فيحلف أهل ذلك الموضع أنَّهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، فألزموا العاقلة مالًا بغير بيِّنةٍ ثبتت عليهم ولا إقرار منهم، وألزموه جناية عمدٍ لم تثبت أيضًا ببيِّنة ولا إقرارٍ.
          وقول المقتول: هذا قتلني، أقوى من قول الشافعيِّ أيضًا أنَّ الوليَّ يقسم إذا كان قرب وليِّه _وهو مقتولٌ_ رجلٌ معه سكِّينٌ؛ لجواز أن يكون غيره قتله.
          والأوضاح جمع وضَحٍ، والوضَح: حَلْيٌ من فضَّةٍ. عن صاحب «العين».


[1] في (ز): ((خارجت)) والمثبت من المطبوع والصحيح.