شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا مات في الزحام أو قتل

          ░16▒ باب: إِذَا مَاتَ في الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ.
          فيه عَائِشَةُ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أي عِبَادَ اللهِ! أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أي عِبَادَ الله ! أبي أبي، قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. [خ¦6890]
          قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا زَالَتْ في حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ.
          اختلف العلماء فيمن مات في الزحام ولا يُدرَى من قتله، فقالت طائفةٌ: ديته في بيت المال. روي ذلك عن عُمَر بن الخطَّاب وعليِّ بن أبي طالبٍ، وبه قال إسحاق، وقالت طائفةٌ: ديته على من حضر. هذا قول الحسن البصريِ والزهريِّ، وفيها قولٌ آخر وهو أن يقال لوليِّه: ادَّع على من شئت، فإذا حلف على أحدٍ بعينه أو جماعةٍ يمكن أن يكونوا قاتليه في الجمع حلف، واستحقَّ على عواقلهم الدية في ثلاث سنين. هذا قول الشافعيِّ.
          وقال مالكٌ: دمه هدرٌ، ووجه قول من قال إنَّه في بيت المال، أنَّا قد أيقنَّا أنَّ من مات من فعل قومٍ مسلمين ولم يتعيَّن مَنْ قتله؛ فحسن أن يودى من بيت المال؛ لأنَّ بيت مالهم كالعاقلة، ووجه قول من قال إنَّ ديته على من حضر، أنَّا قد أيقنَّا أنَّ مِنْ فعلِهم مات فوجب أن لا يتعدَّى ذلك إلى غيرهم، وحديث هذا الباب أشبه بهذا القول من غيره؛ لأنَّ حذيفة قال: (غَفَرَ اللهُ لَكُمْ)، فدلَّ أنَّه لم يغفر لهم إلَّا ما له مطالبتهم به، ألا ترى قوله: (فَلَمْ يَزَلْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْها بَقِيَّةُ خَيرٍ)، يريد أنَّها ظهرت عليه بركة ذلك العفو عنهم.
          ووجه قول الشافعيِّ أنَّ الدماء والأموال لا تجب إلَّا بالطلب، فإذا ادَّعى أولياء المقتول على قومٍ وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقُّوا.
          ووجه قول مالكٍ أنَّه لمَّا لم يُعلَم قاتله بعينه عِلمَ يقينٍ استحال أن يؤخذ فيه أحدٌ بالظنِّ، فوجب أن يُهدَر دمه.