شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص}

          ░3▒ باب: قَوْلِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} الآية[البقرة:178]
          وباب: سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ وَالإقْرَارِ في الْحُدُودِ.
          فيه أَنَسٌ: (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ فُلانٌ، أَوْ فُلانٌ، حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبيَّ صلعم، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ). [خ¦6876]
          قال المؤلِّف: قال قَتادة في هذه الآية: إنَّ أهل الجاهليَّة كان فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشيطان، فكان الحيُّ إذا كان فيهم عزٌّ ومنعةٌ، فقتل لهم عبدٌ قتله عبد قومٍ آخرين؛ قالوا: لا يُقتَل به إلَّا حرٌّ، وإذا قتلت منهم امرأةٌ قالوا: لا نقتل بها إلَّا رجلًا، فنهاهم الله تعالى عن البغي، وأخبر أنَّ {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}[البقرة:178].
          قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قال قومٌ: يقتل الحرُّ بالعبد، والمسلم بالذمِّيِّ. هذا قول الثوريِّ والكوفيِّين، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45].
          وقال مالكٌ والليث والشافعيُّ وأبو ثورٍ: لا يقتل حرٌّ بعبدٍ. وهذا مذهب أبي بكرٍ وعمر وعليِّ وزيد بن ثابتٍ، قال إسماعيل بن إسحاق: وغلط الكوفيُّون في التأويل؛ لأنَّ معنى قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]إنَّما هي النفس المكافئة للنفس في حرمتها وحدودها؛ لأنَّ القتل حدٌّ من الحدود، ولو قذف حرٌّ عبدًا لما كان عليه حدُّ القذف، وكذلك الذمِّيُّ.
          والحدود في الأحرار من الرجال والنساء واحدةٌ، وحرمتهم واحدةٌ، ويبيِّن ذلك قوله تعالى في نسق هذه الآيات: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}[المائدة:45]فعلمنا أنَّ العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأنَّ الكافر لا يسمَّى بأنَّه مصَّدِّقٌ ولا مكفَّر عنه، وكذلك العبد لا يجوز أن يتصدَّق بدمه ولا بجرحه؛ لأنَّ ذلك إلى سيِّده، قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}[البقرة:178].
          وقال أبو ثورٍ: لمَّا اتَّفق جميعهم أنَّه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس؛ كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرَّق منهم بين ذلك فقد ناقض.
          وقال المُهَلَّب: في قوله باب سؤال القاتل حتَّى يقرَّ. ينبغي للإمام وللحاكم أن يشدَّ على أهل الجنايات ويتلطَّف بهم حتَّى يقرُّوا ليؤخذوا بإقرارهم، بخلاف إذا جاءوا تائبين مستفتين فإنَّه حينئذٍ يعرض عنهم ما لم يصرِّحوا، فكان لهم في التأويل شبهةٌ، فإذا بيَّنوا ورفعوا الإشكال أقيمت عليهم الحدود، وإقرار اليهوديِّ في هذا الحديث يدلُّ أنَّه لم تقم عليه بيِّنةٌ بالقتل، ولو قامت عليه ما احتاج صلعم إلى أن يقرِّره حتَّى يقرَّ، ولو لم يقرَّ لما أقاد منه صلعم.
          وفيه: دليلٌ أنَّه بالشكوى والإشارة تجب المطالبة بالدم وغيره؛ لأنَّ النبيَّ صلعم طلب اليهوديَّ بإشارة الجارية.
          وفيه: دليلٌ على جواز وصيَّة غير البالغ، وجواز دعواه بالدين وغيره على الناس.