شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب جنين المرأة

          ░25▒ باب: جَنِينِ الْمَرْأَةِ.
          فيه أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ). [خ¦6904]
          وفيه عُرْوَةُ: أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ النبيَّ صلعم قَضَى في السِّقْطِ؟ [خ¦6906] [خ¦6907] [خ¦6908]
          قَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا، سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، قَالَ: ائْتِ بمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ على هَذَا، فقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبيِّ صلعم بِمِثْلِ هَذَا.
          وَقَالَ الْمُغِيرَة مَرَةً: إِنِّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُم في إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ.
          قال مالكٌ: دية جنين الحرَّة عُشر ديتها، والعُشر خمسون دينارًا أو ستُّمائة درهمٍ؛ لأنَّ دية الحرَّة المسلمة خمسمائة دينارٍ أو ستَّة آلاف درهمٍ، وعلى هذا جمهور العلماء.
          وخالف ذلك الثوريُّ وأبو حنيفة، فقالا: قيمة الغرَّة خمسمائة درهمٍ؛ لأنَّ دية المرأة عندهم خمسة آلاف درهمٍ على ما روي عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه جعل الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهمٍ، وهو مذهب ابن مسعودٍ.
          وحجَّة مالكٍ ومن وافقه أنَّ النبيَّ صلعم لمَّا حكم في الجنين بغرَّةٍ عبدٍ أو أمةٍ، جعل أصحاب رسول الله صلعم قيمة ذلك خمسًا من الإبل وهي عُشر دية أمِّه، وذلك خمسون دينارًا أو ستُّمائة درهمٍ، ورواية أهل الحجاز أنَّهم قوَّموا الدية اثني عشر ألف درهمٍ أصحُّ عن عمر، وهو مذهب عثمان وعليٍّ وابن عبَّاسٍ.
          قال مالكٌ في «الموطَّأ»: ولم أسمع أنَّ أحدًا يخالف في الجنين أنَّه لا تكون فيه الغرَّة حتَّى يزايل أمَّه ويسقط من بطنها ميِّتًا، فإن خرج من بطنها حيًّا ثمَّ مات، ففيه الدية كاملةٌ.
          قال غيره: والحجَّة لهذا القول أنَّ الجنين إذا لم يزايل أمَّه في حال حياتها فحكمه حكم أمِّهِ ولا حكم له في نفسه؛ لأنَّه كعضوٍ منها فلا غرَّة فيه؛ لأنَّه تبعٌ لأمِّه، وكذلك لو ماتت وهو في جوفها لم يجب فيه شيءٌ لا ديةٌ ولا قصاصٌ، فإن زايلها قبل موتها ولم يستهلَّ ففيه غرَّةٌ عبدٌ أو أمةٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلعم إنَّما حكم في جنينٍ زايَل أمَّه ميِّتًا، وهذا حكمٌ مجمعٌ عليه، وسواءٌ كان الجنين ذكرًا أو أنثى إنَّما فيه غرَّةٌ، فإذا زايل أمَّه واستهلَّ ففيه الدية كاملةٌ؛ لأنَّ حكمه قد انفرد عن حكم أمِّه وثبتت حياته، فكان له حكم نفسه دون حكم أمِّه، ألا ترى أنَّها لو أُعتِقت أمُّه لم يكن عتقًا له، ولو أُعتِقت وهي حاملٌ به كان حرًّا بعتقها، ولا خلاف في هذا أيضًا.
          قال أبو عبيدٍ: (إِمْلَاصِ المَرْأَةِ): أن تلقي جنينها ميِّتًا، يقال منه: أَملَصَت المرأة إِملَاصًا، وإنَّما سمِّي بذلك؛ لأنَّها تزلقه، ولهذا قيل: أَزلَقَتِ الناقةُ وغيرُها، وكلُّ شيءٍ زَلِقَ من يدك فهو مَلِصَ يمْلَصُ مَلَصًا، وأنشد الأحمر:
فَرَّ وَأَعطَانِي رِشاءً مَلِصًا
          يعني أنَّه تزلُق من يدي، فإذا فعلت أنت ذلك به قلت: أملَصتُه إِملَاصًا.