شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً}

          ░11▒ باب قَوْلِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خطأ}[النساء:92]
          وباب: إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ بِهِ.
          فيه أَنَسٌ: (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلانٌ، أَفُلانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ، فَاعْتَرَفَ فَأَمَرَ بِهِ النَّبيُّ صلعم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ). وقَالَ هَمَّامٌ: بين حَجَرَيْنِ. [خ¦6884]
          وترجم له: باب قتل الرجل بالمرأة.
          قال ابن المنذر: حكم الله في المؤمن بقتل الخطأ الدية، وأجمع أهل العلم على القول به.
          وقال الزجَّاج في هذه الآية: المعنى ما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلَّا خطأً البتَّة، وإلَّا خطأً استثناءٌ ليس من الأوَّل، ويسمِّيه أهل العربيَّة: الاستثناء المنقطع، والمعنى: إلَّا أن يخطئ المؤمن، فكفَّارة خطئه تحرير رقبةٍ مؤمنةٍ في ماله وديةٌ مسلَّمةٌ تؤدِّيه عاقلته إلى أهله إلَّا أن يصدَّقوا، يقول: إلَّا أن يصَّدَّق أهل القتيل خطأً على من لزمته دية قتيلهم فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ديته فتسقط عنه.
          قال الطبريُّ: وذكر أنَّ هذه الآية نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة المخزوميِّ، وكان قتل رجلًا مسلمًا ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك الرجل يعذِّبه بمكَّة مع أبي جهلٍ، فخرج ذلك الرجل مهاجرًا إلى النبيِّ صلعم، فلقيه عيَّاشٌ بالحرَّة فقتله، وهو يحسبه كافرًا، ثمَّ جاء إلى النبيِّ صلعم فأخبره بذلك فأمره بعتق رقبةٍ، ونزلت الآية. عن مجاهدٍ وعكرمة.
          وقوله تعالى: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ}[النساء:92]يعني: فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأً من قومٍ ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمنٌ؛ فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ ولا دية تؤدَّى إلى قومه؛ لئلَّا يتقوَّوا بها عليكم {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}[النساء:92]، أي عهدٌ وذمَّةٌ، وليسوا أهل حربٍ لكم؛ {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ}[النساء:92]، يعني على عاقلته، {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}[النساء:92]كفَّارة قتله، ثمَّ اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قومٍ بيننا وبينهم ميثاقٌ، هل هو مؤمنٌ أو كافرٌ؟ فقال قومٌ: هو كافرٌ إلَّا أنَّه لزمت قاتله ديته؛ لأنَّ له ولقومه عهدًا؛ فوجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنَّها مالٌ من أموالهم، فلا تحلُّ للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم. عن ابن عبَّاسٍ والشَّعبيِّ والنخعيِّ والزهريِّ. قالوا: دية الذمِّيِّ كدية المسلم.
          وقال آخرون: بل هو مؤمنٌ. روي ذلك عن النَّخَعِيِّ وجابر بن زيدٍ والحسن البصريِّ. قالوا في قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}[النساء:92]قالوا: وهو مؤمنٌ.
          قال الطبريُّ: وأولى القولين قول من قال: عنى بذلك المقتول من أهل العهد؛ لأنَّ الله تعالى أبهم ذلك فقال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}[النساء:92]ولم يقل: وهو مؤمنٌ، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ}[النساء:92]، يعني فمن لم يجد رقبةً مؤمنةً فصيام شهرين متتابعين، يعني عن الرقبة خاصَّةً. عن مجاهدٍ.
          وقال مسروقٌ: صوم الشهرين عن الرقبة والدية.
          قال الطبريُّ: وأولى القولين: الصوم عن الرقبة دون الدية؛ لأنَّ دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفَّارة على القاتل بإجماعٍ، فلا يقضي صوم صائمٍ عمَّا لزم آخر في ماله. {تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ}[النساء:92]، يعني رحمةً من الله لكم إلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا(1) حَكِيمًا}[النساء:92]يقول: ولم يزل الله عليمًا بما يصلح عباده فيما يكلِّفهم من فرائضه حكيمًا بما يقضي فيهم ويأمر.
          وقوله: (إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً بِالْقَتْلِ قُتِلَ بِهِ) فهو حجَّةٌ على الكوفيِّين في قولهم أنَّه لابدَّ من إقراره مرَّتين في القتل، كما لابدَّ في الزنا من إقراره أربع مرَّاتٍ، وقولهم خلافٌ لهذا الحديث؛ لأنَّه لم يذكر في الحديث أنَّ اليهوديَّ أقرَّ أكثر من مرَّةٍ واحدةٍ، ولو كان في إقراره حدًّا معلومًا لبيَّن ذلك، وبهذا قال مالكٌ والشافعيُّ، وقد تقدَّم في باب سؤال الإمام المقرَّ بالزنا، هل أحصنت؟ حكمُ الإقرار بالزنا وبالقتل، ومذاهب العلماء في ذلك فأغنى عن إعادته. [خ¦6825]
          وفيه من الفقه: أنَّ الرجل يُقتَل بالمرأة، وعلى هذا فقهاء الأمصار، وكذلك تقتل المرأة بالرجل، وشذَّ الحسن البصريُّ، وروايةٌ عن عطاءٍ فقالا: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدُّوا نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل. وروي مثله عن الشَّعبيِّ عن عليٍّ، وبه قال عثمان البَتِّيُّ.
          وحجَّة الجماعة: أنَّ النبيَّ صلعم قتل اليهوديَّ بالمرأة، فدلَّ على ثبات القصاص بين الرجال والنساء.


[1] في (ز): ((وكان عليمًا)) والمثبت من التنزيل والمطبوع.