شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم

          ░21▒ باب: إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ.
          وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعبِيِّ: في رَجُلَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ ☺، ثُمَّ جَاءَ بِآخَرَ فَقَالا: أَخْطَأْنَا، فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَخذَهُمَا بِدِيَةِ الأوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.
          فيه ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ غُلامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ. [خ¦6896]
          وفيه: مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ.
          وَأَقَادَ عَلِيٌّ وابْنُ الزُّبَيْرِ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِن اللَّطْمَةٍ، وَأَقَادَ عُمَرُ مِن الضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ، وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلاثَةِ أَسْوَاطٍ، وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ.
          فيه عَائِشَةُ ♦: (لَدَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم في مَرَضِهِ وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا لا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ للدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ قُلْنَا: كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: لا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلَّا الْعَبَّاسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ). [خ¦6897]
          ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الجماعة إذا قتلوا واحدًا قتلوا به كلُّهم على نحو ما فعل عُمَر بن الخطَّاب، وروي مثله عن عليِّ بن أبي طالبٍ والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب وعطاءٍ والحسن والنخعيِّ والشَّعبيِّ وجماعة أئمَّة الأمصار.
          وفيها قولٌ آخر: روي عن عبد الله والزبير ومعاذ بن جبلٍ: أنَّ لوليِّ المقتول أن يقتل واحدًا من الجماعة ويأخذ بقيَّة الدية من الباقين، مثل أن يقتله عشرة أنفسٍ، فله أن يقتل واحدًا منهم ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية. وبه قال ابن سيرين والزهريُّ.
          وقال أهل الظاهر: لا قود على واحدٍ منهم أصلًا وعليهم الدية. وهذا خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، وحجَّة الجماعة قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف في القتل}[الإسراء:33]فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدًا أو جماعةً؛ لوقوع اسم القتلة عليهم، ولأنَّ الله تعالى جعل الحجَّة لوليِّ المقتول عليهم، و على مثل(1) هذا يدلُّ حديث عائشة: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم أمر أن يُلَدَّ كلُّ من في البيت)) لشهودهم للدده الذي نهاهم عنه، وما ذاق من الألم واشتراكهم في ذلك، وهو حجَّةٌ في قصاص الواحد من الجماعة، ولو لم تقتل الجماعة بالواحد لأدَّى ذلك إلى رفع الحياة في القصاص الذي جعله الله حياةً، ولم يشأ أحدٌ أن يقتل أحدًا ثمَّ لا يقتل به إلَّا دعا من يقتله معه ليسقط عنه القتل، وأيضًا فإنَّ النفس لا تتبعَّض في الإتلاف، بدليل أنَّه لا يقال: قاتل بعض نفسٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ قد حصل من جهته فعل ما يتعلَّق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعَّض لامتناع أن يكون بعض الروح خرج بفعل أحدهم، وبعضها بفعل الباقين، فكان كلُّ واحدٍ منهم قاتل نفسٍ، ومثل هذا لو أنَّ جماعةً دفعوا حجرًا لكان كلُّ واحدٍ منهم دافعًا له؛ لأنَّ الحجر لا يتبعَّض كما أنَّ النفس لا تتبعَّض.
          فإن قيل: إنَّما يقال لكلِّ واحدٍ منهم قاتل نفسٍ كما يقال في الجماعة: أكلت الرغيف، وليس كلُّ واحدٍ منهم أكل الرغيف كلَّه.
          قيل: إنَّما كان هذا لأنَّ الرغيف يتبعَّض، فصحَّ أن يقال لكلِّ واحدٍ منهم: أكل بعض الرغيف، ولمَّا لم يصحَّ التبعيض في النفس لم يصحَّ أن يقال قاتل بعض نفسٍ، وقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:45]الألف واللام للجنس فتقديره: الأنفس بالأنفس، وكذلك قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}[البقرة:178]تقديره: الأحرار بالأحرار.
          فلا فرق بين جماعةٍ قتلوا واحدًا أو جماعةً، وأمَّا القود من اللطمة وشبهها فذكر البخاريُّ عن أبي بكرٍ وعمر وعليٍّ وابن الزبير أنَّهم أقادوا من اللطمة وشبهها، وقد روي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشَّعبيِّ وجماعةٍ من أهل الحديث، وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قصاص فيها للخوف على العين، ويعاقبه السلطان، وإن كانت على الخدِّ ففيها القود.
          وقالت طائفةٌ: لا قصاص في اللطمة. روي هذا عن الحسن وقَتادة، وهو قول مالكٍ والكوفيِّين والشافعيِّ.
          واحتجَّ مالكٌ في ذلك، وقال: ليس لطمة المريض والضعيف مثل لطمة القويِّ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل له الحالة والهيئة، وإنَّما في ذلك كلِّه الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة.
          واختلفوا في القود من ضرب السوط، فقال الليث: يقاد من الضرب بالسوط ويزاد عليه للتعدِّي. وقال ابن القاسم: يقاد من السوط، ولا يقاد منه عند الكوفيِّين والشافعيِّ إلَّا أن يجرح، وقال الشافعيُّ: إن جرح السوط ففيه حكومةٌ.
          وحديث لدِّ النبيِّ صلعم لأهل البيت حجَّةٌ لمن جعل القود في كلِّ ألمٍ، وإن لم يكن جرحٌ ولا قصدٌ لأذًى، بسوطٍ كان الألم أو بيدٍ أو غيره.
          وقد تقدَّم في كتاب الأحكام مذاهب العلماء في الشاهد إذا تعمَّد الشهادة بالزور، هل يلزمه الضمان، [خ¦7181] وقد تقدَّم تفسير قتل الغيلة في باب من قتل قتيلًا فهو بخير النظرين. [خ¦6880]


[1] في (ز): ((مثله)) والمثبت من المطبوع.