شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له

          ░23▒ باب: مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلا دِيَةَ لَهُ.
          فيه أَنَسٌ: (أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ حُجْرٍ في حُجَرِ النَّبيِّ صلعم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ، أَوْ مَشَاقِصَ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ). [خ¦6900]
          وفيه سَهْلٌ: (أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ في جُحْرٍ في بَابِ رَسُولِ اللهِ صلعم، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلعم قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ). [خ¦6901]
          وفيه أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (إِن امْرَؤ اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍك، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ). [خ¦6902]
          اختلف العلماء في هذه المسألة، فروي عن عُمَر بن الخطَّاب وأبي هريرة أنَّه لا دية فيه ولا قود، وبه قال الشافعيُّ. وذكر ابن أبي زيدٍ في «النوادر» عن مالكٍ مثله.
          وقال الطحاويُّ: لم أجد لأبي حنيفة وأصحابه نصًّا في هذه المسألة، غير أنَّ أصلهم أنَّ من فعل شيئًا يدفع به عن نفسه ممَّا له فعله أنَّه لا يضمن ما تلف به، مثل ذلك المعضوض إذا انتزع يده من فم العاضِّ فسقطت ثنيِّتاه أنَّه لا شيء عليه؛ لأنَّه دفع به عن نفسه عضَّه، فلمَّا كان من حقِّ صاحب البيت ألَّا يطَّلع أحدٌ في بيته قاصدًا لذلك؛ لأنَّ له منعه ودفعه عنه كان ذهاب عينه هدرًا، على هذا يدلُّ مذهبهم.
          وقال أبو بكرٍ الرازيُّ: ليس هذا بشيءٍ، ومذهبهم أنَّه يضمن؛ لأنَّه يمكنه أن يمنعه من الاطِّلاع في بيته من غير فقء عينه بأن يزجره بالقول أو ينحِّيه عن الموضع، ولو أمكن المعضوض أن ينتزع يده من غير كسر سنِّ العاضِّ وكسرها ضمن.
          وروى ابن عبد الحكم عن مالكٍ أنَّه عليه القود، واحتجَّ الشافعيُّ بأنَّ النبيَّ صلعم قام إلى الذي اطَّلع عليه بالمِدْرى وقال: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي، لَفَقَأْتُ عَينَكَ) ومثله صلعم لا يقول ما لا يجوز له أن يفعله، ومن فعل ما يجوز له لم يجب عليه قودٌ.
          واحتجَّ المالكيُّون بقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}[المائدة:45]وبقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النحل:126]قالوا: وهذه النصوص تدلُّ على أنَّ قوله صلعم: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ) إنَّما خرج منه صلعم على وجه التغليظ والزجر لا على أنَّه حكم، وهذا كقوله صلعم: ((ومن قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن غلَّ فأحرِقوا رحله واحرموه سهمه))، ومثل ما همَّ صلعم بإحراق بيوت المتخلِّفين عن الصلاة ولم يفعل.
          وممَّا يدلُّ على أنَّ الحديث خرج على التغليظ إجماعهم لو أنَّ رجلًا اطَّلع على عورة رجلٍ أو سوءته أو على بيته، أو دخل داره بغير إذنه أنَّه لا يجب عليه فقء عينه، وهجوم الدار عليه أشدُّ وأعظم، أيضًا فلو وجب فقء عينه لاطِّلاعه لوجب عليه ذلك بعد انصرافه؛ لأنَّ الذنب والجرم الذي استحقَّ ذلك من أجله قد حصل، وقد اتَّفقوا على أنَّ من فعل فعلًا استحقَّ عليه العقوبة من قتلٍ أو غيره أنَّه لا يسقط عنه، سواءٌ كان في موضعه أو قد فارقه.
          وقد روي عن أصحاب النبيِّ صلعم أنَّهم توعَّدوا بما لم ينفذوه، فروى الزهريُّ عن عُمَر بن الخطَّاب أنَّه قال لقيس بن مَكْشُوحٍ المراديِّ: نُبِّئت أنَّك تشرب الخمر. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد أقللت وأسأت، أما والله ما مشيت خلف ملكٍ قطُّ إلَّا حدَّثت نفسي بقتله. قال: فهل حدَّثت نفسك بقتلي؟ قال: لو هممت فعلت. قال: أما لو قلت نعم لضربت عنقك، اخرج لعنك الله، والله لا تبيت الليلة معي فيها، فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال نعم ضربت عنقه؟ قال: لا والله، ولكن استرهبته بذلك.
          وروى جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: قال عليٌّ ☺: لا أوتى برجلٍ وقع بجارية امرأته إلَّا رجمته، فما كان إلَّا يسيرًا حتَّى أتي برجلٍ وقع بجارية امرأته(1)، فقال: أخرجوه عني أخزاه الله.


[1] قوله: ((امرأته)) ليس في (ز) والمثبت من المطبوع والتوضيح لابن الملقن.