شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قتل نفسه خطأً فلا دية له

          ░17▒ بَاب: إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خطأً فَلا دِيَةَ لَهُ.
          فيه سَلَمَة بن الأكوع قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلعم إلى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَياتِكَ، فَحَدَا بِهِمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: مَنِ السَّائِقُ؟ قَالُوا: عَامِرٌ، فَقَالَ: ☼، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلَّا أَمْتَعْتَنَا بِهِ؟ فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَجِئْتُ إلى النَّبيِّ صلعم فَقُلْتُ: يَا رسول اللهِ، فَدَاكَ أبي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأجْرَيْنِ اثْنَيْن: إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَيُّ قَتلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ). [خ¦6891]
          لم يذكر في هذا صفة قتل عامرٍ لنفسه خطأً كما ترجم، وجاء ذلك بيِّنًا في كتاب الأدب في باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم وكان سيف عامرٍ قصيرًا، فتناول به يهوديًّا ليضربه، فرجع ذبابته فأصاب ركبته فمات منه... وذكر الحديث، وقال في آخره: ((قلَّ عربيٌّ نشأ بها مثله))، في مكان قوله: (وَأَيُّ قَتلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ).
          وفي رواية النسفيِّ في حديث هذا الباب: < وَأَيُّ قَتيلٍ يَزِيدُ عَلَيْهِ >، وهو الصواب.
          واختلف العلماء في من قتل نفسه، فقالت طائفةٌ: لا تعقل العاقلة أحدًا أصاب نفسه بشيءٍ عمدًا أو خطأً. هذا قول ربيعة ومالكٍ والثوريِّ وأبي حنيفة والشافعيِّ.
          وقال الأوزاعيُّ وأحمد وإسحاق: ديته على عاقلته، فإن عاش فهي له وإن مات فهي لورثته، واحتجُّوا بما روي: أنَّ رجلًا كان يسوق حمارًا، فضربه بعصًا كانت معه، فأصاب عينه ففقأتها، فقضى عمر بديته على عاقلته، وقال: أصابته يدٌ من أيدي المسلمين.
          وحديث سلمة بن الأكوع حجَّةٌ للقول الأوَّل؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يوجب له ديةً على عاقلةٍ ولا غيرها، ولو وجبت على العاقلة لبيَّن ذلك ◙؛ لأنَّ هذا موضعٌ يحتاج إلى بيانٍ، بل شهد صلعم أنَّ له أجرين، وأيضًا فإنَّ الدية إنَّما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجاني، فإذا لم يجب على الجاني لأحدٍ شيءٌ لم يحتج إلى التخفيف عنه.
          وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونةً للجاني فتؤدَّى إلى غيره، فمحالٌ أن يؤدَّى عنه إليه، والنظر يمنع أن يجب للمرء على نفسه دينٌ، ألا ترى أنَّه لو قطع يد نفسه عمدًا لم تجب فيها الدية، فكذلك إذا قتل نفسه.
          واحتجَّ مالكٌ في ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا}[النساء:92]ولم يقل: من قتل نفسه خطأً، وإنَّما جعل العقل فيما أصاب به إنسانٌ إنسانًا، ولم يذكر ما أصاب به نفسه.