شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم}

          ░1▒ فيه ابْنُ مَسْعُودٍ: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أي الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ(1) أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ؟ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ(2) أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةِ جَارِكَ)، فَأَنْزَلَ اللهُ ╡ تَصْدِيقَهُ(3):{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآيَةَ(4)[الفرقان:68]. [خ¦6861]
          وفيه ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ ذنبِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا).
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمُورِ التي لا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ دَمٍ حَرَامٍ بِغَيْرِ حِلِّهِ. [خ¦6862]
          وفيه: ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ في الدِّمَاءِ). [خ¦6864]
          وفيه الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاذَ بِشَجَرَةٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أأقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: لا تَقْتُلْهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُ قَدْ(5) طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ(6) ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا أأقْتُلُهُ؟ قَالَ: لا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التي قَالَ). [خ¦6865]
          وفيه ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم لِلْمِقْدَادِ: (إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ(7)، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ). [خ¦6866]
          اختلف العلماء في القاتل هل له توبةٌ لاختلافهم في تأويل هذه الآية، فروي عن زيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر أنَّه لا توبة له، وأنَّ قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا(8)}[النساء:93]غير منسوخةٍ، وإنَّما نزلت بعد الآية البيِّنة التي في سورة الفرقان التي فيها توبة القاتل بستَّة(9) أشهرٍ، ونزلت آية الفرقان في أهل الشرك، ونزلت آية النساء في المؤمنين. وروى سعيد بن مِينَا عن ابن عمر أنَّه سأله رجلٌ فقال: إنِّي قتلت رجلًا(10) فهل لي من توبةٍ؟ قال: تزوَّد من الماء البارد فإنَّك لا تدخلها أبدًا. ذكره ابن المنذر، وروي عن عليِّ بن أبي طالبٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر: أنَّ القاتل له توبةٌ من طريقٍ(11) لا يحتجُّ بها، وقاله جماعةٌ من التابعين.
          روي ذلك عن النَّخَعِي ومجاهدٍ وابن سيرين وأبي مِجْلَزٍ وأبي صالحٍ، وجماعة أهل السنَّة وفقهاء الأمصار على هذا القول راجين له التوبة؛ لأنَّه تعالى يقبل التوبة عن عباده، وإنَّما أراد أن يكون المسلم في كلِّ الأمور خائفًا راجيًا.
          قال إسماعيل بن إسحاق: حدَّثني المقدِّميُّ، قال: حدَّثنا المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عبيدٍ البارقيُّ، قال: حدَّثني إسماعيل بن ثوبان قال: جالست الناس في المسجد الأكبر قبل الدار فسمعتهم يقولون: لمَّا نزلت: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية[النساء:93]، قال المهاجرون والأنصار: وجبت لمن فعل هذا النار. حتَّى نزلت: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48].
          واحتجَّ أهل السنَّة أنَّ القاتل في مشيئة الله ╡ بحديث عُبَاْدَة(12) بن الصَّامت: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم أخذ عليهم في بيعة العقبة: أنَّ من أصاب ذنبًا فأمره إلى الله إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له)).
          وأمَّا قوله: (وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) فهو كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}[الإسراء:31]وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:140]قال عِكْرِمَة(13): نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. وقال قَتادة: كان أهل الجاهليَّة يقتل أحدهم ابنته مخافة السِّباء والفاقة، فحرَّم الله تعالى قتل الأطفال، وأخبر النبيُّ صلعم أنَّ ذلك ذنبٌ عظيمٌ(14) بعد الكفر، وجعل بعده في العِظم الزنا بحليلة الجار لعِظم حقِّ الجار ووكيد حرمته، وقد تقدَّم في باب إثم الزنا قبل هذا. [خ¦6811]
          قال المُهَلَّب: وأمَّا(15) قوله: (أَوَّلُ مَا يُنظَرُ فِيهِ مِنْ أَعمَالِ النَّاسِ في الدِّمَاءِ) يعني أوَّل ما ينظر فيه من مظالم الناس لعظم القتل عند الله ╡ وشدَّته(16)، وقد جاء في حديثٍ آخر أنَّ أوَّل ما ينظر فيه الصلاة. وليس بمتعارضٍ، ومعناه: أوَّل ما ينظر فيه في خاصَّة نفس كلِّ مؤمنٍ من بعد ما ينتصف الناس بعضهم من بعضٍ، ولا تبقى تباعةً إلَّا لله ╡ بالصلاة.
          وأمَّا قوله صلعم للمقداد: (فَإِنَّكَ بِمَنزِلَتِهِ قَبلَ أَنْ يَقُولُهَا) فقد فسَّره حديث ابن عبَّاسٍ الذي في آخر الباب، ومعناه أنَّه يجوز أن يكون(17) اللَّائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنًا يكتم إيمانه مع قومٍ كفَّارٍ غلبوه على نفسه، فإن قتلته فأنت شاكٌّ في قتلك إيَّاه أين(18) ينزله الله من العمد والخطأ، كما كان هو مشكوكًا في إيمانه لجواز أن يكون يكتم إيمانه، وكذلك فسَّره المقداد كما فهمه من النَّبيِّ صلعم فقال: (كَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ بِمَكَّةَ تَكْتُمُ إِيمَانَكَ) وأنت مع قومٍ كفَّارٍ في جملتهم وعددهم مكثِّرًا ومحزِّبًا، فكذلك الذي لاذ بالشجرة وأظهر إيمانه لعلَّه كان ممَّن يكتم إيمانه(19) وهذا كلُّه معناه النهي عن قتل من شهر بالإيمان.
          فإن قيل: كيف قطع اليد وهو ممَّن يكتم إيمانه؟ قيل: إنَّما دفع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك، كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه(20)، فإن اضطرَّه الدفع عن نفسه إلى قتل الظالم دون قصدٍ إلى إرادة قتله فهو هدرٌ؛ فلذلك لم يقد ◙ من يد المقداد كما لم يقد قتيل أسامة؛ لأنَّه قتله متأوِّلًا، ويحتمل قوله صلعم: (فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ) وجهًا آخر: أنَّه مغفورٌ له بشهادة التوحيد كما أنت مغفورٌ لك بشهود بدرٍ.
          وقوله: (فَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ) يعني أنَّك قاصدٌ لقتله عمدًا آثمٌ، كما كان هو قاصدًا لقتلك آثم(21)، فأنت في مثل حاله من العصيان، لا أنَّ واحدًا منهما(22) يكفر بقتله المسلم؛ لأنَّ إتيان الكبائر لمن صحَّ له عقد التوحيد لا يخرجه إلى الكفر، وإنَّما هي ذنوبٌ(23) موبقاتٌ، لله تعالى أن يغفرها لكلِّ من لا يشرك به شيئًا.
          وقال ابن القصَّار: معنى قوله: (وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَها) في إباحة الدم لا أنَّه كافرٌ بذلك، وإنَّما قصد ردعه وزجره عن قتله؛ لأنَّ الكافر إذا أسلم فقتله حرامٌ.


[1] قوله: ((خشية)) ليس في (ت).
[2] قوله: ((ثم)) ليس في (ت).
[3] في (ت): ((تصديقها)).
[4] قوله: (({النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}الآية)) ليس في (ت).
[5] قوله: ((قد)) ليس في (ت).
[6] زاد في (ت): ((بعد)).
[7] في (ز): ((فقتله)) والمثبت من (ت).
[8] قوله: ((متعمدا)) ليس في (ت).
[9] في (ت): ((ستة)).
[10] قوله: ((رجلا)) ليس في (ت).
[11] في (ت): ((طرق)).
[12] في (ت): ((عبد الله)).
[13] زاد في (ت): ((فيمن)).
[14] في (ت): ((أن ذلك أعظم)).
[15] في (ت): ((أما)).
[16] في (ت): ((وشده)).
[17] قوله: ((أن يكون)) ليس في (ت).
[18] في (ت): ((أن)).
[19] قوله: ((لعله كان ممن يكتم إيمانه)) ليس في (ت).
[20] زاد في (ت): ((من يريد قتله)).
[21] كذا في (ز) والعبارة مشكلة. وفي (ت): ((كما كان هو قاصد لقتلك آثم)).
[22] في (ت): ((أحد منهما)).
[23] قوله: ((بقتله المسلم؛ لأن إتيان..... وإنما هي ذنوب)) ليس في (ت).