عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في قبر النبي وأبى بكر وعمر
  
              

          ░96▒ (ص) بابُ مَا جَاءَ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صلعم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ♦.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما جاء في صفةِ قبرِ النَّبِيِّ صلعم ، وصفةِ قبر أبي بكر الصِّدِّيق وعُمَرَ الفاروق؛ مِن كون قبورهم في بيت عائشةَ ♦، وكونِه مُسنَّمًا أو غيرَ مُسَنَّمٍ، وكونِه بارزًا أو غيرَ بارز، ومِن كون أبي بكر وعُمَرَ معه صلعم ، وفيه فضيلةٌ عظيمة لهما فيما لا يشاركهما فيها أحدٌ، وذلك أنَّهما كانا وزيرَيْه في حال حياته، وصارا ضجيعَيْه بعد مماته، وهذه فضيلةٌ عظيمةٌ خصَّهما اللهُ تعالى بها، وكرامةٌ حباهما بها لم تحصل لأحدٍ، ألا ترى وصيةَ عائشة ♦ إلى ابنِ الزُّبَير ☻: ألَّا يدفنها معهم؛ خشية أن تُزَكَّى بذلك، وهذا مِن تواضعها وإقرارِها بالحقِّ لأهله، وإيثارِها به على نفسها، ورأتْ عُمَرَ ☺ أهلًا، وأيضًا لقرب طينتهما مِن طينته، ففي حديث أبي سعيد ☺ : مرَّ رسول الله صلعم في جنازةٍ عند قبرٍ، فقال: «قبرُ مَن هذا؟» فقال: فلانٌ الحبشيُّ، فقال صلعم : «لا إله إلَّا الله، سيقَ مِن أرضه وسمائه إلى تربته التي منها خُلِقَ»، قال الحاكمُ: صحيح الإسناد، وإِنَّما استأذنها عمر في ذلك ورغب إليها فيه لأنَّ الموضعَ كان بيتَها، ولها فيه حقٌّ، ولها أن تؤثرَ به نفسَها لذلك، فآثرتْ به عُمَرَ ☺ ، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلَّتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمارٍ سَقَطْنَ في حُجْرَتها، فقصَّتها على والدها لمَّا تُوُفِّي رسول الله صلعم ، ودُفِنَ في بيتها، فقال لها أبو بكر: هذا أَوَّلُ أقمارك، وهو خيرُها.
          (ص) قَوْلُ اللهِ ╡ : {فَأَقْبَرَهُ}[عبس:21].
          (ش) (قَوْلُ اللهِ) مبتدأ، وخبره قولُه: ({فَأَقْبَرَهُ}) بالتأويل؛ يعني: قولُ الله مقولٌ فيه: {فأقبره}، يشير به إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}، وذلك بعد أن خلَقَه سويًّا ثُمَّ أماته؛ أي: قبض روحه، فأقبره؛ أي: جعله ذا قبرٍ يُدفَن فيه، وقيل: جعل له مَن يقبره ويواريه، ولا يُلقَى للسباع والطير؛ ليكون مكرَّمًا حيًّا وميِّتًا، ولم يقل: قَبَرَه؛ لأنَّ فاعلَ ذلك هو الله تعالى؛ أي: صيَّره مقبورًا، فليس كفعل الآدميِّ، والعربُ تقول: طردتُ فلانًا عنِّي، والله أطْرَدَه؛ أي: جعله طريدًا.
          (ص) أَقْبَرْتُ الرَّجُلَ أَقْبُرُهُ؛ إِذَا جَعَلْتَ لَهُ قَبْرًا، وَقَبَرْتُهُ: دَفَنْتُهُ.
          (ش) أشار بهذا إلى الفرق في المعنى بين (أَقْبَرْتُ) الذي هو مِنَ الثُّلاثيِّ المزيدِ مِن (باب الإفعال) وبين (قَبَرْتُ) الذي مِنَ الثُّلاثيِّ المجرَّد، وبيَّن أنَّ معنى (أَقْبَرْتُ) : (جَعَلْتَ لَهُ / قَبْرًا)، وأنَّ معنى (قَبَرْتُ) فلانًا (دَفَنْتُهُ).
          (ص) {كِفَاتًا}[المرسلات:25]: يَكُونُونَ فِيهَا أَحْيَاءً، وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتًا.
          (ش) أشار بهذا إلى تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا}، وقوله: ({كِفَاتًا}) كلمة مِنَ القرآن الكريم، وقوله: (يَكُونُونَ فِيهَا) تفسيرُه، وروى عبدُ بنُ حُمَيد مِن طريق مجاهد، قال في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا. أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:25-26] قال: يكونون فيها ما أرادوا، ثُمَّ يُدفنون فيها، انتهى.
          و(الكِفَات) من: كَفَتُّ الشيءَ أكفته؛ إذا جمعتَه وضممتَه، قاله الزجَّاج، وقال الفَرَّاء: تكفتهم أمواتًا في بطنها؛ أي: تحفظهم وتحرزهم، ونصب (الأحياء والأموات) بوقوع (الكِفَات) عليه، وفي «تفسير الطَّبَريِّ» {كِفَاتًا} وعاء، وعن ابن عَبَّاس: كِنًّا، وعن مجاهد: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} قال: تكفتُ أذاهم وما يخرج منهم، وفي «المحكم»: كَفَتَه وكفَّتَه: قبضه وضمَّه، قال: وعندي أنَّ «الكِفَات» في الآية الكريمة مصدرٌ مِن «كَفَتَ».