عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الصبر عند الصدمة الأولى
  
              

          ░42▒ (ص) بَابُ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى.
          (ش) يجوز في (بَابٌ) التنوينُ، ويجوزُ بالإضافة إلى (الصَّبْرِ)، وعلى التَّقديرَين ارتفاعُ (بَابٌ) على أنَّهُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: هذا بَابٌ، ولفظُ (الصَّبرِ) عند إضافة (الباب) إليه يكونُ مجرورًا بالإضافة، وعند كونِ (الباب) مُنوَّنًا يكون لفظ (الصَّبرُ) مرفوعًا على الابتداء، وخبرُه قوله: (عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى).
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : نِعْمَ الْعِدْلَانِ! وَنِعْمَ الْعِلَاوَةُ! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:156-157].
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيثُ إنَّ اللهَ تعالى أخبرَ عَنِ الصَّابرين الذين يقولون عندَ المصيبة: ({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ})، وأخبر أنَّهم هم الذين ({عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ})، وأخبر أنَّهم ({هُمُ الْمُهْتَدُونَ})، وإِنَّما استحقُّوا هذه الفضائلَ الجزيلةَ بصبرِهم المُبشَّرِ عليه بهذه البشارةِ، وهو الصَّبر عند الصدمةِ الأولى، وهو الصَّبرُ المحمودُ الذي يكون عندَ مفاجأة المصيبة، فَإِنَّهُ إذا طالتِ الأيَّامُ عليها وقعَ السُّلوُّ، وصارَ الصَّبرُ حينئذٍ طبعًا.
          قوله: (نِعْمَ الْعِدْلَانِ!) بكسر العين؛ أي: المِثْلَان، وقال المُهَلَّب: «العِدْلَان» الصلواتُ والرحمةُ، و(الْعِلَاوَةُ) : ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ})، وقيل: ({إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}) العِلَاوةُ / التي يُثابُ عليها، وقال ابنُ التِّين: قال أبو الحسن: «العِدْلُ الواحدُ» قولُ المصاب: {إِنَّا لِله} إلى آخرها، و«العِدْلُ الثاني» الصلواتُ التي عليهم مِن الله تعالى، [و«العِلاوةُ»: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وهو ثناءٌ مِنَ الله عليهم]، وقالَ الدَّاوديُّ: إِنَّما هو مَثَلٌ ضربَه للجزاء، فالعِدلان عِدلَا البعيرِ أو الدَّابَّة، و«العِلاوةُ» الغِرارةُ التي تُوضَعُ في وسَط العِدلَين مملوءةً، يقول: كَمَا حملت هذه الرَّاحلةُ وسقَها، فَإِنَّها لم يبقَ موضعٌ يُحمَلُ عليه؛ فكذلك أُعطيَ هذا الأجرَ وافرًا، وعلى قول الداوديِّ يكونُ (العِدلان) و(العِلاوةُ) : {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} إلى {الْمُهْتَدُونَ}، وقال ابن قُرْقُولَ: العِدْلُ هنا: نصفُ الحملِ على أحد شِقَّي الدابَّة، والحِملُ عِدلان، و«العِلاوةُ» ما جُعِلَ بينهما، وقيل: ما عُلِّقَ على البعير، ضربَ ذلك مثلًا بقوله: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} قالَ: فالصلواتُ عِدْلٌ، والرحمةٌ عِدْلٌ، وَ{أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} العِلاوةُ، وقال الفَرَّاء: «العَدْل» بالفتح: ما عَادَلَ الشيء مِن غير جنسه، وبالكسر: الِمثْلُ، و«العِلَاوةُ» بالكسر: ما عُلِّقَت على البعيرِ بعد تمامِ الوقر؛ نحو السِّقاء وغيرِه.
          قوله: (نِعْمَ) كلمةُ مَدحٍ، و(العِدْلَان) فاعلُه، (وَنِعْمَ الْعَلَاوَةِ!) عطفٌ عليه، وقوله: ({الَّذِينَ}) هو المخصوصُ بالمدح، وقال الكَرْمَانِيُّ: والظَّاهرُ أنَّ المرادَ بـ«العدلين» القولُ وجزاؤه؛ أي: قولُ الكلمتَين ونوع الثواب، وهما متلازمان في أنَّ العِدلَ الأَوَّلَ مُرَكَّبٌ مِنَ كلمتين، والثاني مِنَ النَّوعين مِنَ الثَّوابِ، ومعنى «الصَّلاة مِن الله» المغفرةُ.
          ثُمَّ هذا الأثرُ المُعلَّق وصلَه الحاكم في «مستدركه» مِن طريق جرير عن منصور، عن مجاهد، عن سعيد بن المُسَيَّـِبِ، عن عمرَ ☺ ...، كما ساقه البُخَاريُّ، وزاد: ({أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}) نِعمَ العِدلان! و({أُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}) نِعْمَ العِلاوة! وهكذا أخرجَه البَيْهَقيُّ عنِ الحاكم.
          (ص) وَقَوْلِهِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) مجرورٌ؛ لأنَّه عطفٌ على قوله: (بَابُ الصَّبرِ) والتقدير: وبابِ قولِهِ تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} الآية، ويجوزُ أن يكونَ مرفوعًا عطفًا على قوله: (الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) على تقدير قطع الإضافة في لفظ: (باب) كما ذكرنا فيه الوجهين.
          وجهُ ذكرِ هذه الآية الكريمة هنا هو أنَّهُ لمَّا كانَ المُعتبَرُ مِنَ الصَّبر هو الصَّبرَ عند الصَّدمة الأولى _الذي ذكرنا معناه_ يأتي الصَّابرُ بصبرٍ مقرونٍ بالصَّلاة؛ ولهذا كان النَّبِيُّ صلعم إذا حزبه أمرٌ صلَّى، رواه أبو داود، وروى الطَّبريُّ في «تفسيره» بإسنادٍ حَسَنٍ عن ابن عَبَّاس ☻: أنَّهُ نُعِيَ إليه أخوه قُثَمُ وهو في سفرٍ، فاسترجعَ، ثُمَّ تنحَّى عن الطريقِ، فأناخَ فصلَّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثُمَّ قامَ وهو يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية، قال المُفسِّرون: معنى الآية: استعينُوا على ما يستقبلكم مِن أنواع البلايا بالصَّبر والصَّلاة، وقيل: في أمر الآخرة، وقيل: في ترك الرِّياسة، و(الصبرُ) الحبسُ؛ لأنَّ الصابرَ حابسٌ نفسَه على ما تكرهُه، وسُمِّيَ الصومُ صبرًا لحبسِ النَّفسِ فيه عن الطعام وغيرِه، ونهى صلعم عن قتل شيءٍ مِنَ الدَّوابِّ صَبرًا؛ وهو أن يُحبَس حيًّا، وقيل: المراد بـ«الصَّبر» في هذه الآية الصَّومُ، قاله مجاهد.
          قوله: ({وَإِنَّها}) أي: وإنَّ الصَّلاةَ، ولم يقل: وإنَّهما، مع أنَّ المذكورَ الصَّبرُ والصَّلاةُ، فقيل: لأنَّه رَدَّ الضَّميرَ إلى ما هو الأهمُّ والأغلب؛ كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا}[التوبة:34]، ردَّ الضميرَ إلى {الفضَّةِ} لأنَّها أعمُّ وأغلب.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ الاستعانة بالصَّلاة؟
          قُلْت: لمَّا كانَ فيها تلاوةُ القرآن والدعاءُ والخضوعُ لله تعالى؛ كان ذلكَ معونةً إلى ما تُنازِعُ إليه النفسُ مِن حبِّ الرِّياسة والأنفةِ مِنَ الانقيادِ إلى الطاعة.
          قوله: ({لَكَبِيرَةٌ}) أي: شديدةٌ ثقيلةٌ على الكافرين إلَّا على الخاشعين ليست بكبيرةٍ، و(الخاشع) الذي يُرَى أثرُ الذُّلِ والخضوع عليه، و(الخشوعُ) في اللُّغة: السكون، قالَ: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ / لِلرَّحْمَنِ}[طه:108]، وقيل: الخشوع في الصوت والبصر، والخضوع في البدن.
          فَإِنْ قُلْتَ: قد علمتَ أنَّ العبدَ منهيٌّ عن الهجرِ وتسخُّطِ قضاء الرَّبِّ في كلِّ حال، فما وجهُ خصوص نزولِ النَّائبة بالصَّبر في حالِ حدوثها؟
          قُلْت: لأنَّ النَّفسَ عند هجوم الحادثة تتحرَّك على الخشوع ليسَ في غيرها مثله، وذلك يضعفُ على ضبط النَّفس فيها كثيرٌ مِنَ الناس، بل يصيرُ كلُّ جازعٍ بعدَ ذلك إلى السلوِّ ونسيان المصيبة والأخذ بقهرِ الصَّابرِ النَّفسَ، وغلبته هواها عندَ صدمته؛ إيثارًا لأمرِ الله على هوى نفسِه، ومنجزًا لموعده، بل السَّالي عن مُصابِه لا يستحقُّ الصبرَ على الحقيقة؛ [لأنَّه آثرَ السُّلوَّ على الجزعِ واختارَه، وإِنَّما الصَّبرُ على الحقيقة] مَن صبَّر نفسَه وحبسَها عَن شهوتِها، وقهرَها عنِ الحزنِ [والجزع والبكاء الذي فيه راحةُ النَّفسِ، وإطفاءٌ لنارِ الحزن]، فإذا قابلَ سَورةَ الحزنِ وهجومَه بالصَّبر الجميل، وتحقَّق أنَّهُ لا خروجَ له عن قضائه، وأنَّه يرجع إليه بعدَ الموت؛ استحقَّ حينئذٍ جزيلَ الأجرِ، وعُدَّ مِنَ الصابرين الذين وعدَهم اللهُ بالرَّحمة والمغفرة.