عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في عذاب القبر
  
              

          ░86▒ (ص) باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ.
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}[الأنعام:93] هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتينِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة:101] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:45-46].
          (ش) أي: هذا باب في بيانِ ما جاء مِن الأخبار في حقِّيَّة عذاب القبر، وأشار بهذه الترجمة إلى مجرَّدِ وجود عذاب القبر دون التعرُّض أنَّهُ يقع على الروح وحده، أو عليه وعلى البدن، وفي هذا الَباب خلافٌ مشهورٌ بين أهل السنَّة والمعتزلة، وقد بسطنا الكلام فيه في (باب الميِّت يسمع خَفْقَ النِّعال).
          ثُمَّ إنَّ البُخَاريَّ ذكر هذه الآياتِ الكريمةَ الثلاثَ تنبيهًا على ثبوت ذكر عذابِ القبر في القرآن، وردًّا على مَن ادَّعى عدم ذكره في القرآن، وأنَّ ذكره ورد في أخبار الآحاد.
          الآية الأولى: هي قوله تعالى في (سورة الأنعام) : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} أشار إليها بقوله: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على قوله: (عَذَابِ الْقَبْرِ).
          قوله: ({وَلَوْ تَرَى}) خطابٌ للنَّبيِّ صلعم ، وجواب {لو} محذوفٌ؛ أي: لرأيت أمرًا عجيبًا عظيمًا، وكلمة {إذ} ظرفٌ مضافٌ إلى جملةٍ اسْميَّة؛ وهي قوله: ({الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}) وقال الزَّمَخْشَريُّ: يريد بـ«الظالمين» الذين ذكرهم مِن اليهود والمتنبِّئة، فتكون (اللام) للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله، وقال غيره: المراد مِن الظالمين هؤلاء قومٌ كانوا أسلموا بِمَكَّةَ أخرجهم الكفَّار إلى قتال بدرٍ، فلمَّا أبصروا أصحاب النبيِّ صلعم / ؛ رجعوا عن الإيمان، وقيل: هم الذين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:91].
          قوله: ({فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}) أي: في شدائده وسكراته وكُرباته، وهو جمع (غمرة)، وأصل الغمرة ما يَغمُر مِنَ الماء، فاستعيرت للشدَّة الغالبة.
          قوله: ({بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: يبسطون إليهم، يقولون: هاتوا أرواحكم، أخرِجوها إلينا مِن أجسادكم، وهذه عبارةٌ عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق مِن غير تنفيسٍ وإمهال، وقال الضَّحَّاك وأبو صالح: باسطو أيديهم بالعذاب، وروى الطبرانيُّ وابن أبي حاتم مِن طريق عليِّ بن أبي طلحة، عن ابن عَبَّاس ☻، في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الآية، قال: هذا عند الموت، والبسط: الضَّرب، يضربون وجوههم وأدبارهم.
          فَإِنْ قُلْتَ: الترجمةُ في عذاب القبر، وهذا قبل الدَّفن.
          قُلْت: هذا مِن جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة، وإضافةُ (العذاب) إلى (القبر) لكثرة وقوعه على الموتى في القبور، وإلَّا فالكافرُ ومَن شاء الله تعذيبَه مِنَ العصاة يُعذَّب بعد موتهِ ولو لم يدفن، ولكنَّ هذا محجوبٌ عنِ الخلق إلَّا مَن شاء الله لحكمةٍ اقتضت ذلك.
          قوله: ({أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ}) أي: تقولُ الملائكة: أخرجوا أنفسكم؛ وذلك لأنَّ الكافر إذا احتُضِرَ بشَّرته الملائكة بالعذاب والنَّكال والسلاسل والجحيم وغَضَبِ الرَّحْمَن الرحيم، فيفرق روحُه في جسده، ويَعصِي ويَأبى الخروج، فتضربهمُ الملائكة حَتَّى تخرجَ أرواحُهم مِن أجسادهم قائلين لهم: أخرِجوا أنفسكم، وقيل: معناه أخرِجوا أنفسكم مِنَ العذاب إن قدِرتُم؛ تقريعًا لهم وتوبيخًا.
          واختُلِفَ في النَّفس والروح؛ فقال القاضي أبو بكر وأصحابُه: إنَّهما اسمانِ لشيءٍ واحدٍ، وقال ابنُ حبيبٍ: الروح هو النَّفَسُ الجاري، يدخل ويخرج، لا حياة للنفس إلَّا به، والنفس يَألم ويَلَذُّ، والروح لا يَألمُ ولا يَلَذُّ، وعنِ ابنِ القاسم عن عبد الرَّحْمَن بن خلف: بلغني أنَّ الروحَ له جسدٌ ويدانِ ورجلانِ، ورأسٌ وعينان، يُسَلُّ مِنَ الجسد سلًّا، وعنِ ابنِ القاسم: الروح مثلُ الماء الجاري.
          قوله: ({الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}) أي: اليوم تُهانون غايةَ الإهانة بما كنتم تكفرون على الله وتستكبرون عن اتِّباع آياتِه والانقياد لرسله، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {اليومَ تُجزَون} يجوزُ أن يريدوا وقتَ الإماتة، وما يُعذَّبون به مِن شِدَّة النَّزع، وأن يريدوا الوقتَ الممتدَّ المتطاولَ الذي يلحقُهم فيه العذابُ في البرزخ والقيامة، وفسَّر البُخَاريُّ {الْهُونِ} بقوله: (هُوَ الْهَوَانُ) وهو الهوان الشديد، وإضافة (العذاب) إليه كقولك: رجلُ سُوءٍ، تُريد العَراقة في الهَوانِ والتمكُّن فيه.
          قوله: (وَالْهَوْنُ: الرِّفْقُ) أي: (الهَون) بفتح الهاء معناه: الرفق؛ كما قال في قوله: وَ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:63] أي: برِفْقٍ وسَكينة.
          الآية الثانية: هي قوله: ({سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتينِ}[التوبة:101]) أشار إليها بقوله: (وَقَوْلِهِ ╡ ) بالجرِّ أيضًا عطفًا على ما قبله، وهذه الآيةُ في (سورة البراءة)، وقبلها قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتينِ}، وقال مجاهد: {مَرَّتينِ} القتل والسَّبْيُ، وعنه: العذابُ بالجوع وعذاب القبر، وقيل: الفضيحة وعذابُ القبر، وروى الطبريُّ وابنُ أبي حاتم مِن طريق السُّدِّيِّ عن أبي مالكٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: خطب رسول الله صلعم يوم الجمعة، فقال: «اخرج يا فلان؛ فإنَّك منافق، واخرج يا فلان؛ فإنَّك منافق»، فأخرج مِنَ المسجد ناسًا منهم فَضَحهم، فجاء عمرُ ☺ وهم يخرجون مِنَ المسجد، فاختبأ منهم حياءً أنَّهُ لم يشهد الجمعة، وظنَّ أنَّ النَّاس قدِ انصرفوا، واختبؤوا هم مِن عمر، ظنُّوا أنَّهُ قد علِمَ بأمرهم، فجاء عمرُ فدخل المسجد، فإذا النَّاس لم يصلُّوا، فقال له رجلٌ مِنَ المسلمين: أَبشِر يا عمر، فقد فضَحَ الله المنافقين، فقال ابنُ عَبَّاس: فهذا العذابُ الأَوَّل حين أخرجهم مِنَ المسجد، والعذاب الثاني عذابُ القبر، وكذا قال الثَّوْريُّ عنِ السُّدِّيَّ عن أبي مالك نَحْوَ هذا.
          الآية الثالثة: هي قوله تعالى: ({وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ}) إلى قوله: ({أَشَدِّ الْعَذَابِ}[غافر:45-46]) وهي في (سورة المؤمِن) التي تسمَّى (سورة غافر) أيضًا، ومعنى {حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ} / يعني: نزل بهم {سُوءُ العَذابِ} يعني: شدَّة العذاب، وقال الزَّمَخْشَريُّ: {وَحاقَ بآلِ فِرعَونَ} ما همُّوا به من تعذيب المسلمين، ورَجَع عليهم كيدُهم، يقال: حاق به الشيءُ يحيق؛ أي: أحاطَ به، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}[فاطر:43]، وحاق بهم العذاب أي: أحاط بهم ونزل.
          قوله: ({النَّارُ يُعْرَضُونَ}) بدلٌ مِن قوله: {سُوَءُ الْعَذَابِ}، أو خبرُ مبتدأ محذوف، كأنَّ قائلًا يقول: ما سوءُ العذاب؟ فقيل: هو النار، أو مبتدأ وخبرُه: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}، وعرضُهم عليها إحراقُهم بها، يقال: عَرَضَ الأسارى على السيف؛ إذا قَتَلهم به، وقرئ: {النَّارَ} بالنصب، وتقديرُه: يدخلون النارَ يُعرَضون عليها، ويجوز أن ينتصبَ على الاختصاص، وقال ابن عَبَّاس: {يُعرَضُونَ} يعني: أرواحُهم على النار {غُدُوًّا وعَشِيًّا} يعني: في هذينِ الوقتين، وهكذا قال مجاهدٌ وقتادة، وقال مُقاتِل: تُعرَضُ روحُ كلِّ كافرٍ على منازلهم مِنَ النار كلَّ يوم مَرَّتينِ، وقال أبو الليثِ السَّمَرْقَنْديُّ: الآيةُ تدلُّ على عذاب القبر؛ لأنَّه ذَكَر دخولهم النار يومَ القيامة؛ وذلك أنَّهُ تُعرَض عليهم النار قبل ذلك غُدوًّا وعَشيًّا، وقال ابنُ مسعود: إنَّ أرواح آلِ فرعون في أجوافِ طيرٍ سود، تُعرَض على النار مَرَّتينِ، يقال لهم: هذه دارُكم، وقال مجاهد: {غُدُوًّا وعَشِيًّا} مِن أيام الدنيا، وقال الفَرَّاء: ليس في القيامة غدوٌّ ولا عَشيٌّ، لكن مقدار ذلك، ويَرُدُّ عليه قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}[غافر:46] فدلَّ على أنَّ الأَوَّل بمنزلة عذابِ القبر، وحديث البراء مُفسِّر للآية.
          قوله: ({وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}) يعني: يُقال لهم يوم القيامة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرعَونَ} قَرَأَ ابن كثيرٍ وابنُ عامر وأبو عَمْرو: {اُدْخُلُوا} بِضَمِّ الهمزة، وهكذا قرأ عاصمٌ في رواية أبي بكر، وقرأ الباقون بفتح الهمزة، فمَن قرأ بالضمِّ فمعناه: ادْخُلُوا يا آلَ فرعون أشدَّ العذاب، فصار (الآل) نصبًا بالنِّداء، ومن قرأ: {أَدْخِلُوا} بفتح الهمزة؛ فمعناه: يقال للخَزَنة: {أَدْخِلوا آلَ فِرعَونَ} يعني: قومَ فرعون {أَشَدَّ العَذابِ} يعني: أشدَّ العقاب، وصار (الآل) نصبًا لوقوع الفعلِ عليه.