عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور
  
              

          ░61▒ (ص) بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ.
          (ش) أي: هذا بَابٌ في بيان كراهيةِ اتِّخاذِ المساجدِ على القبور.
          فَإِنْ قُلْتَ: يأتي بعدَ ثمانية أبواب (باب بناء المسجد على القبر)، فما وجهُ هذين البابَين؟
          قُلْت: وجهُ ذلك أنَّهما في الحكم سواءٌ، غيرَ أنَّهُ صرَّح بالكراهة في ترجمة هذا الباب، واكتفى هناك بدلالةِ حديثِ الباب على الكراهة، وقيل: الاتِّخاذُ أعمُّ مِنَ البناء؛ فلذلك أفردَه بالترجمة، ولفظها يقتضي أنَّ بعضَ الاتِّخاذ لا يُكرَه، فكأنَّه يُفَصِّلُ بينَ ما إذا ترتَّب على الاتِّخاذ مفسدة أم لا.
          قُلْت: لا نُسلِّمُ أنَّ لفظها يقتضي أنَّ بعضَ الاتِّخاذ لا يُكرَه، ودعوى العمومِ بين الاتِّخاذ والبناء غيرُ صحيحةٍ.
          (ص) وَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ؛ ضَرَبَتِ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ، فَسَمِعَتْ صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا؟ فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا.
          (ش) مطابقةُ هذا للترجمة مِن حيثُ إنَّ هذه القبَّةَ المضروبةَ لم تخلُ عَنِ الصَّلاة فيها، واستلزم ذلك اتِّخاذَ المسجدِ عندَ القبر، وقد يكون القبرُ في جهة القِبلةِ، فتزداد الكراهةُ، وقال ابن بَطَّالٍ: ضَرَبَتِ القُبَّة على الحسن، وسَكنَت فيها، وصلَّتْ فيها، فصارت كالمسجدِ، وأوردَ البُخَاريُّ ذلك دليلًا على الكراهة، وكره أحمدُ أن يُضرَبَ على القبر فسطاطًا، وأوصى إبراهيمُ مَرَّةً عندَ موتِه: أَنْ لا تضربوا عليَّ فسطاطًا، وقال ابنُ حبيب: ضَرْبُهُ على قبر المرأة أفضلُ مِن ضَرْبِه على قبر الرجل، وضربَ عمرُ ☺ على قبر زينبَ بنتِ جحش، وقال ابن التين: وممَّن كره ضربُه على قبرِ الرَّجلِ ابنُ عمر وأبو سعيدٍ وابن المُسَيَّـِبِ، وضربت عائشةُ على قبر أخيها، فنزعه ابن عمر، وضربه مُحَمَّدُ ابنُ الحَنَفيَّة على قبر ابن عَبَّاس، وقال ابن حبيب: أَراهُ في اليوم واليومين والثلاثةِ واسعًا إذا خِيفَ مِن نَبْشٍ أو غيره.
          و(الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ) بلفظِ التَّكبيرِ فيهما، ابنِ عليِّ بنِ أبي طالب، ♥ ، أحدُ أعيانِ بني هاشم فضلًا وخيرًا، مات سنة سبعٍ وتسعين، وامرأته فاطمةُ بنت حُسَينِ بن عليٍّ، وهي التي حلفت له بجميعِ ما تملكه: إنَّها لا تَزوَّجُ عبدَ اللهِ بن عَمْرو بن عثمان بنِ عفَّان، ثُمَّ تزوَّجته، فأولدها مُحَمَّدًا الدِّيباجَ.
          قوله: (قُبَّةً) بِضَمِّ القاف وتشديد الباء المُوَحَّدة، قال الجَوْهَريُّ: «القُبَّةُ» بالضَّمِّ: مِنَ / البناء، والجمع: قُبَبٌ وقِبَابٌ، وقال ابنُ الأثير: «القَّبَّةُ» مِنَ الخيام: بيتٌ صغيرٌ مُستديرٌ، وهو مِن بيوت العرب، و«ضَرْبُ القبَّةِ»: نصبُها وإقامتُها على أوتادٍ مضروبةٍ في الأرض، وجاء في رواية المغيرة بن مُقسِمٍ: لمَّا مات الحسن بن الحسن ضربتِ امرأتُه على قبره فسطاطًا وأقامت عليه سنةً، قال الجَوْهَريُّ: «الفُسطاطُ» بيتٌ مِن شَعَرٍ، وفي «المُغرِبِ»: هو خيمةٌ عظيمةٌ، وفي «الباهر»: هو مَضْرِبُ السُّلطان الكبير، وهو السُّرادق أيضًا، وقالَ الزَّمَخْشَريُّ: هو ضَرْبٌ مِنَ الأبنية في السفر دونَ السرادق، وقال ابن قُرْقُولَ: هو الخِباء ونحوُه، وقال ابن السِّكِّيت: «فُسطاط» بِضَمِّ الفاء، و«فِسطاطٌ» بكسرها، وفُسْتَاطُ وفِسْتاطُ وفُسَّاطُ وفِسَّاطُ، والجمع: فساطيطُ وفَسَاسيطُ، وفي «الباهر»: وفَسَاتيطُ.
          قوله: (ثُمَّ رَُفَـِعَتْ) على بناءِ الفاعل بفتحِ الراء، وبضمِّها أيضًا على بناءِ المفعول.
          قوله: (فَسَمِعَتْ) ويُروى: <فَسَمِعُوا>.
          قوله: (مَا فَقَدُوا) ويُروى: <ما طلبوا>.
          قوله: (فَأَجَابَهُ آخَرُ) أي: صائحٌ آخرُ، وقال ابنُ التِّين: يحتمل أن يكون هذان الصائحان مِن مُؤمِني الجنِّ، أو مِنَ الملائكة.