عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه
  
              

          ░32▒ (ص) بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : «يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التَّحريم:6].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ قولِ النَّبِيِّ صلعم ...؛ إلى آخره، هذه الترجمةُ بعينها لفظُ حديثٍ يذكره عن قريبٍ مُسنَدًا، وقال بعضُهم: هذا تقييدٌ مِن المصنِّف لمُطلَق الحديثِ، وحَملٌ منه لروايةِ ابنِ عَبَّاسٍ المقيِّدة بالبعضيَّة على رواية ابنِ عمر المُطلَقة.
          قُلْت: لا نُسلِّمُ أنَّ التقييدَ مِن المصنِّف، بل هما حديثان؛ أحدُهما مطلقٌ، والآخر مقيَّد، فترجَم بلفظِ الحديثِ المقيِّد؛ تنبيهًا على أنَّ الحديثَ المُطلَقَ محمولٌ عليه؛ لأنَّ الدلائلَ دلَّت على تخصيص العذاب ببعضِ البكاءِ، لا بكلِّه؛ لأنَّ البكاءَ بغير نوحٍ مُباحٌ، كما سيأتي بيانُه إن شاء الله تعالى.
          وقوله: (إِذَا كَانَ النَّوْحُ...) إلى آخره، ليسَ مِنَ الحديث المرفوعِ، بل هو مِن كلام البُخَاريِّ، قاله استنباطًا.
          قوله: (مِنْ سُنَّتِهِ) بِضَمِّ السين وتشديدِ النون وكسر التاء المُثَنَّاة مِن فوقُ؛ أي: مِن عادته وطريقته، وهكذا هو للأكثرين، وقال ابن قُرْقُولَ: أي: مِمَّا سنَّه واعتادَه؛ إذ كان مِنَ العرب مَن يأمُر بذلك أهلَه، وهو الذي تأوَّله البُخَاريُّ، وهو أحدُ التأويلات في الحديث، وضبطه بعضُهم بالباءِ المُوَحَّدة المكرَّرة؛ أي: مِن أجلِه، وذُكِرَ عن مُحَمَّد بن ناصر أنَّ الأَوَّلَ تصحيفٌ، والصواب الثاني، وأيُّ سُنَّةٍ للميِّت؟! وفي بعض النُّسَخ: <بَابٌ: إذا كَانَ النَّوحُ مِن سُنَّتِه > وضبطه بالنون.
          قوله: (لِقَوْلِ اللهِ...) إلى آخره، وجهُ الاستدلالِ بالآية أنَّ الشخصَ إذا كان نائحًا فأهلُه يقتَدون به، فهو صارَ سببًا لنوح أهله، فما وقى أهلَه مِنَ النَّارِ فخالفَ الأمرَ؛ فيُعَذَّب بذلك.
          قوله: ({قُوا}) أمرٌ للجماعة مِن وَقَى يَقِي، وأصلُه (اِوْقيُوا) لأنَّ الأمرَ مَن (يقي) قِ، أصلُه (اِوْقِ) فحُذِفَتِ الواوُ منه تبعًا لـ(يَقِي)، وأصله (يَوْقِي) حُذِفَتِ الواوُ؛ لِوقوعها بين الياءِ والكسرة، فصارَ (يقي) على وزنِ (يعي) والأمرُ منه (قِ) وعلى الأصلِ (اِوْقِ)، فلمَّا حُذِفَتِ الواوُ منه تبعًا للمضارع؛ استُغنِى عنِ الهمزة، فحذفت، فصارَ (قِ) على وزن (عِ) تقول: قِ، قِيا قُوا، ومعنى (قُوا) احفظُوا؛ لأنَّه مِنَ (الوقايةِ) وهو الحفظ.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
          (ش) هذا حديثُ ابنِ عمر أخرجه في (باب الجُمعَة في القُرَى والمُدُنِ) موصولًا مُطوَّلًا.
          وجهُ إيرادِهِ هذه الآيةَ في معرِضِ الاستدلال هو أنَّ الأمرَ فيها يشملُ سائرَ جهاتِ الوِقاية، فالرَّجل إذا كانَ راعيًا لأهله وجاء مِنه شرٌّ، وتَبِعَه أهلُه على / ذلك، أو هو رآهم يفعلون الشَّرَّ ولم ينههَم عن ذلك؛ فَإِنَّهُ يُسألُ عنه؛ لأنَّ ذلك كانَ مِن سنَّتِه.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما وجهُ المناسبة بينَ الآيةِ والحديثِ، وهو مقيَّدٌ، والآيةُ مطلقةٌ؟
          قُلْت: الآيةُ بظاهرها وإن دلَّت على العموم؛ ولكن خُصَّ منها مَن لَم يكن له عِلمٌ بما يفعله أهلُه مِنَ الشَّرِّ، ومَن نهاهم عنه فلم ينتهوا؛ فلا مؤاخَذةَ ههنا؛ ولهذا قال عبدُ الله بن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياتِه، ففعلوا شيئًا مِن ذلك بعدَ وفاته؛ لم يكن عليه شيءٌ.
          (ص) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164].
          (ش) هذا قسيمُ قولِه: (إذا كانَ النَّوْحُ مِن سنَّته) يعني: فإذا لم يكن النَّوحُ مع البكاءِ من سنَّته؛ أي: مِن عادتِه وطريقتِه.
          قوله: (فَهُوَ كَمَا قَالَتْ) جوابُ (إذا) المتضمِّن معنى الشرط، فحاصل المعنى: إذا لم يكن مِن سنَّتِه؛ فلا شيءَ عليهِ؛ كقولِ عائشةَ، فالكافُ للتشبيه، وكلمة (مَا) مصدريَّة؛ أي: كقولِ عائشةَ مستدلَّةً بقولِهِ تعالى: ({وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}) أي: ولا تُحمَلُ نفسٌ حاملةٌ ذنبًا ذنبَ نفسٍ أخرى، حاصلُه: لا تُؤاخَذ نفسٌ بغير ذنبها، وأصل: ({لَا تَزِرُ}) لا تُوزِرُ؛ لأنَّه مِن (الوِزْرِ) فحُذِفَتِ الواوُ؛ لوقوعها بين الياءِ التي للغائبِ والكسرةِ، وحُمِلَت عليه بقيَّةُ الأمثلة.
          (ص) وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}[فاطر:18].
          (ش) هذا وَقَعَ في رواية أبي ذرٍّ وحدَه؛ أي: ما استدلَّت عائشةُ بقوله تعالى: ({وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}) كقولِه تعالى: ({وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}) أي: وإن تدعُ نفسٌ مثقلةٌ بذنوبها غيرًا إلى حملِ أوزارها: ({لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}) وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ لا غِياثَ يومئذٍ لمَنِ استغاثَ مِن الكفَّار، حَتَّى إنَّ نفسًا قد أثقلتها الأوزارُ لو دَعَت إلى أن يَخِفَّ بعضُ حملها؛ لم تُجَبْ ولم تُغَثْ {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي: وإن كانَ المَدعوُّ بعضَ قرابتِها؛ مِن أبٍ أو أمٍّ أو ولدٍ أو أخٍ، والمدعوُّ وإن لم يكن له ذكرٌ يدلُّ عليه: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}، وإِنَّما لم يُذكَرِ المدعوُّ ليعمَّ ويشملَ كلَّ مَدْعوٍّ، واستقامَ إضمارُ العامٍّ وإن لم يصحَّ أن يكونَ العامُّ ذا قربى للمُثقَلَة؛ لأنَّه مِن العمومِ الكائنِ على البدلِ.
          (ص) وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ.
          (ش) هذا عطفٌ على أَوَّل الترجمة؛ تقديره: بابٌ في بيانِ: قول النَّبِيِّ صلعم : «يُعَذَّبُ الميِّت...» إلى آخره، وفي بيانِ: مَا يُرَخَّصُ [مِنَ البُكَاءِ بِغَيْرِ نياحةٍ، وقال الكَرْمَانِيُّ: أو هو عطفٌ على: «كما قالت» أي: فهو كما يرخَّص] في عدمِ العذاب، وكلمة «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ مصدريَّةً، والترخيص مِن البكاء في غيرِ نوحٍ جاءَ في حديثٍ أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» قالَ: حَدَّثَنَا عليُّ بن عبدِ العزيز: حَدَّثَنَا ابن الأصبهانيِّ: حَدَّثَنَا شريك عن أبي إسحاقَ عن عامر بن سعدٍ قال: دخلت عرشًا وفيه قَرَظَةُ بنُ كعبٍ وأبو مسعودٍ الأنصاريُّ، قالَ: فذكرَ حديثًا لهما قالا فيه: إنَّهُ قد رخَّص لنا في البكاءِ عندَ المصيبة مِن غير نوحٍ، وصحَّحه الحاكم، ولكن ليسَ إسنادُه على شرط البُخَاريِّ، فلذلك لم يذكره، ولكنَّه أشار إليه بقوله: (وما يرخَّص...) إلى آخره، وقَرَظَةَ _بفتحِ القاف والرَّاء والظاء المشالَة_ أنصاريٌّ خزرجيٌّ، كانَ أحدَ مَن وجَّهه عمرُ ☺ إلى الكوفة ليفقِّه النَّاس، وكان على يدِه فتحُ الرَّيِّ، واستخلفَه عليٌّ ☺ على الكوفة، وقال ابن سعدٍ وغيرُه: ماتَ في خلافة عليٍّ ☺ .
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا» وَذَلِكَ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.
          (ش) هذا أخرجَه البُخَاريُّ مِن ابنِ مسعودٍ موصولًا في (خلق آدمَ) : حدَّثنا عُمَر بنُ حفص بنِ غياث: حدَّثنا أبي: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قالَ: حدَّثني عبدُ الله بن مُرَّةَ عن مسروقٍ عن عبد الله قال: قال رسول الله صلعم ... الحديث، وأخرجه أيضًا في (الدِّيَاتِ) في (باب قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}[المائدة:22]) عَن قَبِيصَة / عن سفيانَ، عن الأَعْمَش، عن عبد الله بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ... إلى آخره، وفي (الاعتصام) أيضًا عن الحُمَيْديِّ عن سفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، وأخرجه مسلمٌ في (الحدود) عن جماعةٍ، والتِّرْمِذيُّ في (العلم) عن محمودِ بن غَيْلانَ، والنَّسائيُّ في (التفسير) عن عليِّ بن خشرم، وفي (المحاربةِ) عن عَمْرو بن عليٍّ، وابنُ ماجه في (الدِّيات) عن هشام بن عمَّار.
          ثُمَّ وجهُ الاستدلال بهذا الحديث: أنَّ القاتلَ المذكورَ يُشارِكُ مَن فعلَ مثله؛ لأنَّه هو الذي فتحَ هذا البابَ وسوَّى هذا الطريقَ، فكذلك مَن كان طريقتُه النَّوحَ على الميِّت يكونُ قد فتح لأهلِه هذا الطريقَ؛ فيُؤَاخذُ على فعله.
          ومدارُ مرادِ البُخَاريِّ في هذه الترجمة على أنَّ الشخصَ لا يُعَذَّبُ بفعلِ غيرِه إلَّا إذا كانَ له فيه تسبُّب، فمَن قالَ بجواز تعذيب شخصٍ بفعلِ غيره؛ فمرادُه هذا، ومَن نفاه فمرادُه ما إذا لم يكن فيه تسبُّبٌ أصلًا.
          قوله: (لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ) على صيغة المجهول.
          قوله: (ظُلْمًا) نصب على التمييز؛ أي: مِن حيثُ الظلمُ.
          قوله: (ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ) المراد به: قابيلُ الذي قتل أخَاه شقيقَه هابيلَ؛ ظلمًا وحَسَدًا.
          قوله: (كِفْلٌ) بكسرِ الكاف، وهو النَّصيب والحظُّ، وقال الخليل: الضِّعْفُ، وهذا الحديثُ مِن قواعد الإسلام موافقٌ لحديث: «مَن سَنَّ حسنةً...» الحديث وغيرِه في الخير والشرِّ.
          قوله: (وَذَلِكَ) أي: كون الكِفلِ على ابن آدم الأَوَّل.
          قوله: (بِأَنَّهُ) أي: بسبب أنَّ ابنَ آدمَ الأَوَّلَ هو الذي سَنَّ قتلَ النَّفسِ؛ ظلمًا وحَسَدًا.