عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما يكره من النياحة على الميت
  
              

          ░33▒ (ص) باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى الْمَيِّتِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ؛ أي: كراهة التحريم، وكلمة: (ما) يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدريَّة، والتقدير على الأَوَّل: بابٌ في بيان الذي يُكرَه، وعلى الثاني: بابٌ في بيان الكراهية مِنَ النياحة، وعلى الوجهين كلمة (مِن) بيانيَّة، قيل: يحتمل أن تكون تبعيضيَّة، والتقدير: كراهية بعض النياحة، وكأنَّ قائل هذا لَمَح ما نقله ابن قُدَامة عن أحمد في رواية: إنَّ بعض النياحة لا يُحرم؛ لأنَّه صلعم لم ينه عمَّة جابرٍ لمَّا ناحت، فدلَّ على أنَّ النياحة إِنَّما تحرم إذا انضاف إليها فعلٌ مِن ضرب خدٍّ أو شقِّ جيبٍ، ورُدَّ بأنَّه صلعم إِنَّما نهى عن النياحة بعد هذه القصَّة؛ لأنَّها كانت بأُحُد، وقد قال في أُحُد: «لكنَّ حمزة _ ☺ _ لا بواكي له»، ثُمَّ نهى عن ذلك، وتوعَّدَ عليه، وبيَّن ذلك ابن ماجه: حدَّثنا هارون بن سعيد المصريُّ قال: حدَّثنا عبد الله بن وَهْب قال: أخبرنا أسامة بن زيد، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلعم مرَّ بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهنَّ يوم أُحُد، فقال [ صلعم : «لكنَّ حمزة لا بواكي له»، فجاءت نساء الأنصار يبكين حمزة، فاستيقظ رسولُ الله صلعم فقال]: «ويحهنَّ ما انقلبن بعدُ، مُرُوهُنَّ فَلْيَنقَلِبنَ، ولا يبكين على هالكٍ بعد اليوم»، وأخرجه أحمد أيضًا والحاكم وصحَّحه.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ.
          (ش) مطابقته للترجمة ظاهرةٌ، وهذا تعليقٌ وصله البَيْهَقيُّ عن عبد الله بن يوسف الأصفهانيِّ: أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابيِّ: حدَّثنا سعدان بن نصر: حدَّثنا أبو معاوية عن الأَعْمَش عن شقيقٍ قال: لمَّا مات خالد بن الوليد ☺ اجتمع نسوة بني المغيرة يبكين عليه، فقيل لعمر: أَرسِل إليهنَّ فانهَهُنَّ، فقال عمر: ما عليهنَّ أن يهرقن دموعهنَّ على أبي سليمان، ما لم يكن نقعٌ أو لقلقة، و(أَبُو سُلَيْمَانَ) كنية خالد بن الوليد ☺ ، قال بعضهم: تنبيه: كانت وفاة خالد بن الوليد بالشام سنة إحدى وعشرين.
          قُلْت: لم ينبِّه أحدًا ! فإنَّ (الشام) اسمٌ لهذه الإقليم المشهورة، وحدُّها مِنَ الغرب بحر الروم مِن طرسوس إلى رَفَح التي في أَوَّل الجِفار بين مِصر والشام، ومِنَ الجنوب مِنَ رفح إلى حُدود تيهِ بني إسرائيل إلى ما بَين الشَّوْبَك وأيلة إلى البلقاء، ومِنَ الشرق من البلقاء إلى مشارف صَرخَد إلى مشارف حلب إلى بالس، ومِنَ الشمال مِن بالس مع الفرات إلى قلعة نَجم إلى إِلْبيرَة إلى قلعة الروم [إلى سُمَيساط إلى حصن منصور إلى بَهَسْنا إلى مَرعَش إلى طرسوس إلى بحر الروم] مِن حيث ابتدأنا، فإذا كان الأمر كذلك؛ كيف يتنبَّه النَّاظر؟ وكيف يعلم وفاة خالدٍ في أيِّ صقع مِن بلاد الشام كانت؟
          فنقول: قد اختلف أهل السِّير والأخبار في مكان وفاته، قال الواقديُّ: مات خالد ☺ في بعض قرى حمص على ميل مِن حمص في سنة إحدى وعشرين، قال صاحب «المرآة»: هذا قول عامَّة المؤرِّخين، وذكر ابن الجوزيِّ في «التلقيح»: قال: لمَّا عزل عمر خالدًا لم يزَل مرابطًا بحِمص حَتَّى مات، وقال إسحاق بن بشر: قال مُحَمَّد: مات خالد بن الوليد بالمدينة، فخرج عمر ☺ في جنازته، وإذا أمُّه تَنْدُب وتقول أبياتا أوَّلها هو قولها:
أنت خيرٌ مِن ألفِ ألفٍ مِنَ                     القوم إذا ما كنتَ وجوهَ الرجال
          فقال عمر: صدقتِ إن كان كذلك، وجماعة على أنَّهُ مات بالمدينة، واحتجُّوا في ذلك بما رواه سيف بن عُمَر عن مبشِّر عن سالم قال: حجَّ عمر ☺ ، واشتكى خالد بعده وهو خارج المدينة زائر لأمِّه، فقال لها: قدِّموني إلى مهاجَري، فقدمت به المدينة / ومَرَّضته، فلمَّا ثقل وأظل قدوم عمر لقيه لاقٍ على مسيرة ثلاثة أيَّام، وقد صدر عمر عن الحجِّ، فقال له عمر: مَهْيَم؟ فقال: خالد بن الوليد ثقل لِمَا به، فطوى ثلاثًا في ليلةٍ، فأدركه حين قضى، فرقَّ عليه، فاسترجع وجلس ببابه حَتَّى جُهِّزَ وبكته البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمع لهذه؟ فقال: وما على نساء آل الوليد أن يسفحنَ على خالد مِن دموعهنَّ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ، وقال الموفَّق في «الأنساب»: عن مُحَمَّد بن سلام قال: لم تبقَ امرأةٌ مِن نساء بني المغيرة إلَّا وضعت لِمَّتها على قبر خالد _أي: حلقت رأسها_ وشققنَ الجيوب، ولطمنَ الخدود، وأطعمنَ الطعام، ما نهاهنَّ عمر، قالوا: فهذا كلُّه يقتضي موته بالمدينة، وإليه ذهب دُحيم أيضًا، وقالت عامَّة العلماء _منهم: الواقديُّ، وأبو عبيد، وإبراهيم بن المنذر، ومُحَمَّد بن عبد الله، وأبو عَمرو العُصفُريُّ، وموسى بن أيُّوب، وأبو سليمان بن أبي مُحَمَّد، وآخرون_: إنَّهُ مات بحمص سنة إحدى وعشرين، وزاد الواقديُّ: وأوصى إلى عُمَر بن الخَطَّاب ☺ .
          (ص) وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ.
          (ش) فسَّر البُخَاريُّ (النَّقْعَ) بـ(التُّرَابِ) وهو بفتح النون وسكون القاف وفي آخره عين مُهْمَلة، وفسَّر (اللَّقْلَقَةَ) باللامين والقافين بـ(الصَّوْتِ) وقال الإسماعيليُّ: «النَّقعُ» ههنا الصَّوت العالي، و«اللقلقة» حكاية صوت ترديد النوَّاحة، وقال ابن قُرْقُولَ: «النَّقعُ» الصوت بالبكاء، قال: وبهذا فسَّره البُخَاريُّ، فهذا كما رأيتَ ما فسَّر البُخَاريُّ (النَّقع) إلَّا بـ(التراب)، قال صاحب «التلويح»: والذي رأيتُ في سائر نُسَخ البُخَاريِّ، الذي رأيته؛ يعني: فسَّر «النَّقع» بـ«التراب»، وروى سعيد بن منصور عن هُشَيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: «النَّقعُ» الشَّقُّ؛ أي: شقُّ الجيوب، وكذا قال وكيع فيما رواه ابن سعدٍ عنه، وقال الكسائيُّ: هو صنعة الطعام في المأتم، وقال أبو عُبيد: «النقيعة» طعام القدوم مِنَ السفر، وفي «المجمَل»: «النَّقعُ» الصراخ، ويقال: هو النقيع، وفي «الصحاح»: «النَّقيع» الصُّراخ، ونقَعَ الصوتُ واستنقع؛ أي: ارتفع، وفي «المُوعَب»: نقع الصارخُ بصوته وأنقع؛ إذا تابعه، وفي «الجامع» و«الجمهرة»: الصوت واختلاطه في حَرْب أو غيرها، وقال القزَّاز: اللقلقة: تتابع ذلك؛ كما تفعل النساء في المأتم، وهو شدة الصَّوت، وقال ابن سِيدَه عن ابن الأعرابيِّ: تقطيع الصَّوت، وقيل: الجلبة.